التنمية السياسية: النظريات والمفهوم
يعتبر حقل التنمية السياسية من الحقول التي حظيت بدراسات عديدة ومتنوعة، خاصة بسبب ارتباطها بحالة التخلف وكيفية الخروج منها، وهي الحالة التي تعاني منها البلدان التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية الغربية. وبرز الاهتمام بصورة متزايدة في قضايا التنمية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي شهدت استقلال الكثير من الدول، وما طرحه الاستقلال من تحديات ومواجهة مشاكل بناء الدولة، والتنمية والتغيير، للتغلب على حالة الضعف والتشوه في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبسبب تلك الحالة التي كانت عليها الدول التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية، أطلق عليها تسميات مثل " دول العالم الثالث " و " الدول النامية " و " الدول المتخلفة "، وكانت هذه الدول وأوضاعها ومشاكلها هي مجال وموضوع دراسات التنمية، التي تركزت اهتماماتها بصورة عامة حول مواضيع " النمو " و " التحديث " و " التقدم " ([1] ).
تباينت الرؤى والأساليب والمناهج حول كيفية التخلص من التخلف والتغلب على مظاهره وتبعاته، وبالتالي كيفية الوصول إلى التنمية بشكل عام والتنمية السياسية خاصة، وذلك تبعا للنظريات والمدارس الفكرية التي عالجت قضايا التنمية ومتطلباتها وشروطها. حيث أن هناك نوع من الاتفاق الواسع على مظاهر التخلف في دول العالم الثالث، لكن لا يوجد اتفاق مماثل على أسباب التخلف ونشأته وأسباب استمراره وطرق الخلاص منه ([2] ).
1. نظريات التنمية السياسية
يصنف بعض الأكاديميين والكتاب، مثل علي غربي، وناجي شراب، النظريات التي تشكل مرجعية ومنطلق دراسة التنمية السياسية إلى ثلاث نظريات رئيسية هي؛ نظرية التحديث ومداخلها ومناهجها المتنوعة والتي تنطلق من أفكار علم الاجتماع وعلم السياسة الرأسماليين؛ والنظرية الماركسية المعتمدة على أفكار ماركس ولينين وتطبيقاتها في الدول الاشتراكية؛ ونظرية التبعية التي تم التنظير لها من مفكرين في العالم الثالث، ردا على فشل نظريات ومشاريع التنمية في هذه الدول، وخاصة من مفكري دول أمريكا الجنوبية ([3] ).
ويصنفها نصر محمد عارف على أنها نظريات أوروبية للتنمية السياسية وهي؛ النموذج الليبرالي السياسي الغربي أو ( النظريات السلوكية )؛ والنموذج الاشتراكي المسترشد بالتجارب الاشتراكية؛ ونظرية التبعية أو كما يسميها ( الماركسية الجديدة )، حيث يعتبر أن مدرسة التبعية لا تخرج في مقولاتها عن أفكار ومقولات لينين ([4] ). أما "ريتشارد هيجوت" الأكاديمي البريطاني وأستاذ الاقتصاد السياسي الدولي، فيصنف النظريات إلى نظريتين رئيسيتين هما، نظرية التحديث الغربية؛ والنظرية " الراديكالية "، التي يعتبر أنها تضم نظرية التبعية والنظرية الماركسية ( الجديدة ) ([5] ).
وشكلت هذه النظريات الإطار الفكري لعدد من المناهج والأساليب والاتجاهات الدراسية الفرعية، في تحليل ودراسة مسائل التنمية السياسية. حيث سنعرض لأهم الأسس والمنطلقات التي تقوم عليها النظريات الرئيسية التي شكلت أساس التنظير في هذا المجال.
1.1. نظرية التحديث:
في أعقاب الحرب العالمية الثانية تزايد الاهتمام بدراسة أوضاع الدول حديثة الاستقلال، حيث كانت تعيش في حالة من " التخلف ". واعتبر علماء الاجتماع والسياسة الغربيين أن المجتمع الصناعي في الدول الغربية المتقدمة يشكل نموذجا مثاليا على البلدان النامية أن تسير على خطاه في التنمية والتحديث. وتم النظر إلى عملية التحديث على أنها عملية انتقال نحو الأنماط والنظم الاجتماعية والسياسية التي تطورت في أمريكا وأوروبا الغربية، ثم انتقلت إلى بقية القارات ([6] ). حيث أن عملية التحديث تطال في تأثيرها مختلف جوانب المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والتحديث في علم اجتماع التنمية يعني حسب اغلب المنظرين لهذا العلم " نقل للنموذج الغربي وذلك من خلال تصور وجود ثنائية: التقليدي – الحديث "، واعتبار الديمقراطية بمفهومها الواسع، خاصية رئيسية للمجتمع الحديث في المجال السياسي ([7] ).
وفي المجال السياسي أيضا هناك من يرى أن عملية التحديث السياسي هي التحولات والتغييرات السياسية التي حدثت في أوروبا وبقية أنحاء العالم منذ النهضة الأوروبية. وهذه التغييرات يشار لها كخصائص لعملية التحديث السياسي، وتشمل: تحقيق مزيد من المساواة وإعطاء فرص للمشاركة في صنع السياسة، وقدرة النظام السياسي على صياغة وتنفيذ السياسات، والتنوع والتخصص في الوظائف السياسية، وعلمانية العملية السياسية وفصلها عن
التأثيرات الدينية ([8] ).
انبثقت نظرية التحديث بشكل أساسي من نظرية التطور، التي تهتم بتفسير كيفية تحول المجتمعات غير الصناعية إلى مجتمعات صناعية، وتحدد خصائص كل من الحالتين وتؤكد على أن التحديث يتم في اتجاه واحد ويسير من غير الصناعي إلى الصناعي ([9] ). حيث اهتمت نظرية التطور التي ظهرت في الدول الغربية المتقدمة بدراسة المجتمع وعوامل تغيره وتطوره. وهي تمثل أيضا المرجع الرئيسي لنظريات التنمية السياسية التي استخدمت مفاهيمها ومناهجها وأهدافها، حيث ترى هذه النظرية أن التطور والنمو الاجتماعي يسير في خط صاعد واحد بمراحل متتالية، يجب أن يمر بها كل مجتمع ([10] ). وقد ساد في كتابات التنمية السياسية استخدام المدخل الثنائي، الذي تأسس بناءا على أعمال منظري نظرية التطور في القرن التاسع عشر، حيث يتم مقارنة المتغيرات الخاصة بالنمط المثالي المرتبط بالتقليدية / الحداثة. واعتمد علم السياسة على هذه الأنماط الثنائية كما يقول "جبراييل ألموند" عالم السياسة الأمريكي: إن نظريتنا تؤسس عملية بناء النظرية والتنميط بشكل ثنائي بسيط عبر الاستفادة من أعمال "ماكس فيبر"، و "فرديناند توليز"، و "تالكوت بارسونز" .. وغيرهم من علماء الاجتماع المجددين .. في محاولة لبناء نماذج لأشكال المجتمعات والنظم التقليدية والحديثة ([11] ).
والتقسيم الثنائي للمجتمعات ( تقليدي / حديث ) يتأسس على تصور "فيبر" للمجتمع التقليدي بوصفه مجتمع " ما قبل الصناعة " أو " ما قبل العقلانية " أو " مجتمع ما قبل الدولة "([12]). حيث صاغ "فيبر" نموذجه المثالي للمجتمع الحديث استنادا إلى العقيدة البروتستانتية التي يعتبر أنها أدت إلى تطور الرأسمالية الصناعية الغربية، لأنها عقيدة تحث على التحرر، وبالتالي فان قيمها ومعتقداتها المثالية هي أساس ظهور المجتمع الرأسمالي الحديث([13]).
وقدم "تالكوت بارسونز" عالم الاجتماع الأمريكي، ما يعرف ب " متغيرات النمط " كوسيلة تحليل من خلالها يتم تمييز الأفعال الناتجة عن هذه المتغيرات، ومقارنة أنماط مختلفة من المجتمعات بناءا على أنماط مختلفة من الأفعال، وصنف المجتمعات ومدى انتقالها من التخلف إلى التقدم بناءا على تلك المتغيرات. حيث أن قدرة المجتمع على التكيف معها تمكنه تدريجيا من التخلص من خصائص المجتمع المتخلف وتبني مستويات ثقافية مستندة على خصائص المجتمع المتقدم. وخصائص المجتمع المتقدم مقابل خصائص المجتمع المتخلف تتمثل في خمسة؛ العمومية مقابل الخصوصية؛ الأداء ( الانجاز) مقابل العزو ( النسبة )؛ التخصص مقابل الانتشار؛ المصلحة الجماعية مقابل المصلحة الذاتية؛ والحياد الوجداني مقابل الوجدانية. وهذه المتغيرات عند "بارسونز" تمثل مؤشرات تترجم الخصائص البنائية للنظام الاجتماعي من زاوية الدور المتوقع للفرد الفاعل، وتصبح المتغيرات هذه محددات للسلوك الاجتماعي، أو هي انعكاس للخصائص البنائية للمجتمع، وفي علاقات الأدوار في المجتمع ([14] ).
شهدت نظرية التحديث والجانب المتعلق بقضايا التنمية السياسية، تطورات وتغيرات في مناهج ومداخل التحليل في الدراسات التنموية والعلوم السياسية. ويصنف "روبرت باكنهام" تطور علم السياسة إلى ثلاث مراحل، حسب جوانب التركيز والتحليل، وهي؛ علم السياسة القانوني الشكلي؛ وعلم السياسة السلوكي؛ وعلم السياسة في مرحلة ما بعد السلوكية ([15] ). واستنادا إلى هذا
التقسيم لعلم السياسة، يعتبر ريتشارد هيجوت أن التراث السياسي المهتم بالتنمية السياسية، والذي ظهر خاصة في أمريكا الشمالية، قد شهد ثلاث مراحل:
أ- المرحلة الأولى: امتدت من عام 1954 إلى عام 1964، حيث هيمنت عليها أعمال لجنة السياسة المقارنة التابعة للمجلس الأمريكي للعلوم الاجتماعية، والتي عكست نظرة متفائلة بالنجاحات التي حققتها الديمقراطية الليبرالية الغربية، وخاصة تأثير أيديولوجيا الليبرالية الأمريكية. وركزت دراسات التنمية السياسية في تلك المرحلة على المتغيرات القانونية والمؤسسية، حيث أن تطور نظرية التحديث في المرحلة الأولى، اعتبر وسيلة من وسائل تسهيل إرساء الديمقراطية الليبرالية داخل الدول الجديدة ([16] ). وقد ركزت مرحلة النزعة القانونية على أهمية دور الدولة والمؤسسات، حيث اقتصر على دراسة الجانب الرسمي والمؤسسات الرسمية الموجودة في أوروبا، وتحليل البناء القانوني للدول، والمحددات القانونية لمؤسساتها ([17] ).
ب- المرحلة الثانية: من عام 1965 إلى عام 1971، وهي المرحلة التي سادت فيها المدرسة السلوكية، والتي ركزت على النظام ومدخلاته وبيئته المحيطة والعوامل المؤثره على نشاطه وقدراته. حيث تراجع التفاؤل الذي ساد في المرحلة الأولى حول عملية التنمية، وفشلت الدول حديثة الاستقلال في تحقيق التحديث والتنمية الموعودة، وتبث عدم صحة الطرح القائل بأن الانتقال من التقليدية إلى الحداثة هي مسألة تقنية. فتم نقد التصور الخطي الصاعد لعملية التحديث، ونظر هنتنجتون إلى التنمية السياسية بوصفها عملية نمو في كفاءة المؤسسات، بحيث تصبح قادرة على التجاوب مع مسائل المشاركة السياسية والتعبئة الاجتماعية. حيث يرادف هنتنجتون بين التنمية السياسية والتحديث، ويربط بين التنمية السياسية وقدرات النظام المؤسسية لتتماشى مع عملية التنمية والتحديث. واعتبر أن التنمية السياسية تمر بعدة مراحل هي مرحلة ترشيد السلطة، ومرحلة التمايز والتخصص الوظيفي ومرحلة المشاركة السياسية. ومثلت تلك النظرة حسب هيجوت، بداية التحول من التركيز على الديمقراطية إلى التركيز على النظام السياسي في دراسات التنمية السياسية. وانعكاسا لازمة التنمية في الدول حديثة الاستقلال وعدم قدرتها على تحقيق التنمية المتوقعة، فقد اعتبرت دراسات التنمية في هذه المرحلة أن عملية التحديث والانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث ينتج عنها مشكلات متعددة، أو أزمات تنموية يحاجه إلى التغلب عليها. وتم النظر إلى التنمية السياسية بوصفها تجسد قدرة النظام السياسي على التعامل أو التكيف مع مشكلات التنمية السياسية مثل: مشكلة الشرعية، ومشكلة الهوية، ومشكلة المشاركة، ومشكلة التغلغل، ومشكلة التوزيع. ويرى هيجوت أن الاهتمام بقدرات النظام السياسي يشكل نوعا من الدفاع عن النظام والنخب الحاكمة وأهميتها في الحفاظ على النظام واستمراريته، حيث أصبح النظام واستقراره غاية وليس وسيلة للوصول إلى مجتمع حديث ([18] ).
ت- المرحلة الثالثة: بدأت بعد عام 1971 ويطلق عليها مرحلة " ما بعد السلوكية " والتي جاءت كنوع من الاستجابة للنقد الموجه إلى نظرية التحديث بشكل عام ، ونظرية التنمية السياسية بشكل خاص، بسبب الطابع الإيديولوجي المنطلق من الرؤية الغربية الرأسمالية، ومداخلها القائمة على التصنيف الوظيفي وعدم قدرتها على معالجة مشكلات التنمية في دول العالم الثالث، إضافة إلى فشل علم السياسة في بلورة نظرية قادرة على التعامل بصورة فعالة مع هذه المشكلات ([19] ). وجرى استخدام نماذج للدراسة تعتبر خليط من التحليل السياسي ذات الطابع الرشيد والسياسة العامة، نتيجة استخدام متزايد للمفاهيم الاقتصادية من جانب علماء السياسة، حيث أدركوا حاجتهم إلى التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، كمحاولة لتجنب أوجه القصور في النظرية الليبرالية والنظرية السلوكية ([20] ). ويرى هيجوت أن مدخل تحليل السياسات شكل تحولا من التركيز على مدخلات النظام خلال فترة الستينيات إلى التركيز على مخرجات النظام، وبدلا من التركيز على السياسات الكلية انتقل التركيز إلى التحليل السياسي الجزئي ذي الطابع التجريبي. وتم النظر إلى السياسة العامة في سياق حل المشكلات والاختيار العام، على عكس المدخل الذي ينظر للمشكلات بوصفها نتاجا لنظام سياسي معين. كما يرى ان المداخل المختلفة المستخدمة من علماء السياسة هي استجابة للفرضيات المنهجية لنظرية التحديث. حيث أن المشكلات التي واجهت الدارسين في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات متشابهة، لذا ينظر إلى مداخل السياسة العامة وتحليل السياسات على أنها عمليا طريقة أخرى من طرق التركيز على العلاقة بين الدولة والمجتمع والسياسة ([21] ). ويعتبر هيجوت أن هناك نوعا من الاستمرارية بين منهجية تحليل السياسات ونظرية التحديث، حيث أن هذا التحليل لا زال يسعى للبرهنة على النماذج النظرية بناءا على العوامل التاريخية والثقافية بدلا من استخدام البيانات المتاحة لبناء النظريات والنماذج. لذا لم يستطع علم السياسة المعني بالتنمية السياسية الخروج من معطف نظرية التحديث وتبنى الاتجاهات المنهجية الأساسية التي سادت المرحلة السلوكية ([22] ).
1.1.1 التنمية السياسية في نظرية التحديث:
تم معالجة ودراسة التنمية السياسية من الدارسين الغربيين في بدايات الاهتمام بالموضوع على أنها عملية تقل للنموذج الغربي في بناء المؤسسات والأبنية السياسية، والتخلص من الأبنية والقيم التقليدية التي تعيق تطور المجتمع بشكل عام. وكانت النظرة إلى التنمية التي حدثت في الغرب، على أنها عملية ذات صفة عالمية يصلح تطبيقها أو نقلها إلى كل دول العالم الثالث. وكان التركيز والاهتمام في دراسات التنمية السياسية الأولى منصب أكثر على التعرف على الخصائص التي تميز المجتمعات المتقدمة وتطورها عن الخصائص التي تميز المجتمعات المتخلفة. كما جرى التركيز على المراحل التي تمر بها المجتمعات نحو التطور، والقوى والعوامل التي تعجل من عملية التنمية ( [23] ). كما اعتبرت عملية التنمية والتحديث بأنها تمر بمراحل متعاقبة باتجاه واحد صاعد، وأن كل المجتمعات البشرية لا بد أن تسير في هذا الاتجاه الذي مرت به الدول الغربية.
بناءا على ذلك تم تعريف التنمية السياسية في هذا الاتجاه من علماء السياسة، كل من زاوية رؤيته والمنهج المستخدم في دراسة عملية التنمية السياسية. وقد تعددت المناهج وأساليب دراسة التنمية السياسية وطرق تحقيقها والوصول إليها، بحيث أن هناك عدد كبير من الاقترابات والتعريفات التي جعلت من مفهوم التنمية السياسية مفهوما فضفاضا يحمل معاني ودلالات متنوعة. ويرى ديفيد باكنهام أن هناك خمسة اقترابات لدراسة التنمية السياسية ([24] ):
أ- الاقتراب القانوني: الذي يرى التنمية من زاوية القانون والدستور وما يتضمنه من تحديد لنظام الحكم والسلطات وتنظيمها والحقوق وغيرها.
ب- الاقتراب الاقتصادي: ويعالج التنمية السياسية على أنها احد جوانب التنمية الاقتصادية التي تلبي حاجات المجتمع التنموية.
ت- الاقتراب الإداري: يعتبر التنمية السياسية دالة في قدرات النظام الإدارية وكفاءة وفعالية أداء الوظائف المختلفة.
ث- اقتراب النظام الاجتماعي: يعالج التنمية السياسية كجانب من جوانب النظام الاجتماعي المتطور الذي يسهل المشاركة ويوحد الأمة.
ج- اقتراب الثقافة السياسية: يرى أن التنمية السياسية هي دالة في الثقافة السياسية الحديثة التي تقدر القيم الديمقراطية وتحترمها.
لوسيان باي صنف مناهج دراسة التنمية السياسية في عشرة ([25] ):
أ- التنمية السياسية كمتطلب للتنمية الاقتصادية: حيث أن التنمية السياسية هي حالة النظام الذي ينجح في تحقيق التنمية الاقتصادية.
ب- التنمية السياسية كنمط لسياسة المجتمعات الصناعية: فالمجتمعات الصناعية طورت نموذجا للحياة السياسية يعتبر مثالا للمجتمعات الأخرى.
ت-التنمية السياسية كتحديث سياسي: أي نقل النموذج الغربي في الحياة السياسية.
ث- التنمية السياسية كبناء للدولة القومية.
ج- التنمية السياسية كتنمية إدارية وقانونية: حيث يؤكد على الترابط بين التنمية السياسية والتنظيم الإداري والقانوني.
ح- التنمية السياسية كتعبئة ومشاركة جماهيريتين.
خ- التنمية السياسية كبناء للديمقراطية: أي هي نتاج إقامة المؤسسات الديمقراطية.
د- التنمية السياسية كاستقرار وتغير منتظم: أي إن التنمية السياسية تتحقق عندما يستطيع النظام السياسي ضمان الاستقرار وضبط التغيير وتنظيمه والحفاظ على التوازن بحيث لا يؤثر على الاستقرار.
ذ- التنمية السياسية كتعبئة وقوة: من حيث قدرة النظام وقوته في تعبئة وتخصيص الموارد.
ر- التنمية السياسية كجانب من الجوانب المتعددة للتغيير الاجتماعي: أي إن التنمية السياسية ترتبط بمجالات التغير الاجتماعي الأخرى وتتأثر وتؤثر بها وليست مستقلة عنها.
وقد خرج لوسيان باي من هذه المداخل بخلاصة ترى أن التنمية السياسية هي " جانب من عملية التغيير الاجتماعي المتعددة الجوانب ". وتقوم على ثلاثة مقومات رئيسية هي:
أولا: المساواة: مساواة أمام القوانين، ومساواة في الفرص وإمكانيات المشاركة في صنع القرار.
ثانيا: القدرة: وهي قدرة النظام وأبنيته المختلفة بالقيام بمهامها، وقدرتها على تحويل المدخلات إلى مخرجات تلبي حاجات المجتمع.
ثالثا: التميز والتخصص: أي قيام كل بنية في النظام بوظائف محددة ومتخصصة، مع تفاعلها وتعاونها مع بعضها البعض.
جبراييل الموند يعرف التنمية السياسية على أنها " التمايز والتخصص المتزايد للأبنية السياسية، والعلمنة المتزايدة للثقافة السياسية" ([26] ). وعملية التمايز أو التخصص هنا مرتبطة بالوظائف التي تقوم بها الأبنية السياسية، والعمليات والتفاعلات داخل الأنظمة الفرعية للنظام السياسي .حيث أن التمايز والتخصص، يعني تنوع الأدوار وإيجاد أبنية بوظائف وادوار محددة. والعلمانية تشير إلى الرشادة والواقعية في السلوك، وطرح الأساليب التقليدية جانبا مع إتباع الأسس العلمية في اتخاذ القرار. ويرى الموند في مسألة أسلوب الأداء أن النظم التقليدية والحديثة يتم التمييز بينها على أساس طريقة أداء الوظائف السياسية المختلفة. حيث يتميز الأسلوب الحديث بالتحديد والعمومية مقابل الانتشار والخصوصية للتقليدي ([27] ). وهذه الخصائص هي التي تميز تطور الأنظمة السياسية الغربية، التي تعتبر نموذجا للتطور والتنمية لبقية البلدان.
يعتبر الدور السياسي والبنية عند الموند احد أهم وحدات تحليل الأنظمة السياسية، حيث أن الأدوار السياسية مرتبطة يبعضها على شكل أبنية متمايزة ومتفاعلة، وذلك يتيح التركيز على السلوك الفعلي للاعبي الأدوار والمشتركين في السياسة. والتمايز يعني عمليات تبدل الأدوار وتطورها للاستقلال والتخصص المتزايد، حيث ينبثق عنها أدوار جديدة، وأبنية جديدة، والى تغير أنماط التفاعل والعلاقات بين الأدوار أو بين الأبنية. حيث أن السلوك هذا ذا قابلية للملاحظة والدراسة، رغم أن السلوك يتأثر بالقواعد والمعايير، لكن هذه لا تصنعه بشكل كامل. ويمثل الدور والبنية المرتبط بها وحدة من وحدات النظام السياسي، أو نظام فرعي يتكون من أدوار متفاعلة كبنية، والنظام السياسي كمجموعة من النظم الفرعية ( [28] ).
صامويل هنتنجتون يرى أن الحداثة السياسية أو التنمية السياسية تتحقق عندما تتوفر ثلاثة عوامل: الأولى: ترشيد السلطة، أي أن يتم ممارستها واستلامها وتداولها على أساس قانون أو دستور محدد. والثانية: تمايز وتنوع الوظائف السياسية وإيجاد أبنية متخصصة لها. والثالثة: زيادة المشاركة السياسية من قبل المواطنين، ومن خلال قنوات وآليات للمشاركة ( [29] ).
ايزنستادت رأى أن التنمية السياسية تقوم على التالي: أولا: تنمية أبنية سياسية عالية التخصص والتنوع. ثانيا: التوسع المستمر في أنشطة الحكومة المركزية. ثالثا: إضعاف الصفوات التقليدية ([30] ).
نرى من التعريفات السابقة للتنمية السياسية ارتباطها بالمنظور أو التنميط الثنائي الذي يسوق خصائص ومواصفات للمجتمعات الحديثة والمجتمعات التقليدية، واعتماده على الأنماط المثالية للحداثة كما يراها منظري نظرية التحديث. وهذه النظرة تعتبر بلدان العالم الثالث بأنها مجتمعات تقليدية تفتقر للمؤسسات والأبنية المتطورة القادرة على أداء وظائف وادوار بطرق رشيدة وعقلانية، وبعدم كفاءة وفاعلية البنى والمؤسسات الموجودة لديها التي تعتبر متخلفة وتقليدية لا تتلاءم مع متطلبات وشروط الحداثة.
لم تستطع هذه النظريات أن تحقق ما كانت تدعوا له من عملية تحديث، وتعثرت عملية التنمية وانتقال الدول حديثة الاستقلال من النمط " التقليدي " إلى النمط " الحديث ". وقد اتجه علماء السياسة على ضوء ذلك إلى دراسة مشاكل أو أزمات التنمية والتحديث. ورأى البعض منهم أن عمليات التحديث التي تجري في المجتمعات لا تسير بصورة سلسلة وخطية ومتصاعدة كما تم تصويرها من قبل. بل إن تلك العملية يرافقها أو ينتج عنها مشاكل متنوعة، وأزمات بحاجة إلى حل ومعالجة. وقد حددت تلك الأزمات بشكل ومدى مختلف لدى منظري التنمية، كما تم تناولها من زوايا متعددة لدى كل منهم.
ويعتبر لوسيان باي أن التنمية السياسية لا تسير بشكل خطي صاعد، ولا تسير بمراحل ومسارات محددة سلفا، بل قد يحكمها عدد من المشكلات المتزامنة والمنفصلة ([31] ). وبناءا على ذلك أصبحت التنمية السياسية عند جزء مهم من منظريها وكأنها تتحقق عندما ينجح النظام السياسي في معالجة مشكلات أو أزمات التنمية، ويتغلب عليها من خلال رفع فعالية وكفاءة النظام وزيادة قدراته المختلفة ([32] ).
وتنظر المدرسة البنائية الوظيفية للنظام السياسي على انه نظام فرعي ضمن النظام الكلي للمجتمع، يعتمد في أداءه وعمله بصورة كبيرة على تفاعله مع النظم الفرعية الأخرى، حيث تقوم كل منها بوظيفة معينة. وحسب الموند هناك ثلاثة وظائف للنظام السياسي هي: وظائف التحويل وتشمل ( التعبير عن المصالح، تجميع المصالح، الاتصال السياسي، التشريع أو صنع القاعدة، والإدارة أو تطبيق القاعدة، والقضاء أو التقاضي بموجب القاعدة ). ثم وظيفة التكيف التي تتضمن التنشئة والتجنيد السياسي بهدف الحفاظ على النظام والتكيف مع ضغوط التغيير. ثم قدرات النظام التي تشمل القدرة الاستخراجية والتنظيمية والتوزيعية والرمزية والاستجابية ([33] ). وتشير التفاعلات داخل النظام السياسي، وبينه وبين بيئته المحلية والخارجية إلى ما يسمى بالمدخلات التي تأتي النظام والمخرجات التي ينتجها، حسب المدرسة البنائية الوظيفية. وتتشكل المدخلات من الموارد والمطالب والمساندة، والمخرجات هي عمليات صنع القاعدة وتنفيذ القاعدة والتقاضي بموجب القاعدة ([34] ). والمخرجات هي عبارة عن العمليات التي يتم من خلالها صياغة القواعد والإجراءات واتخاذ القرارات وصنع السياسات المختلفة سواء استجابة لمطالب وضغوط معينة أو بدونها.
لذا يصبح من المهم تطوير قدرات النظام على تلبية المطالب المختلفة وتوفير الموارد وإدارتها، أو بمعنى آخر القيام بعمليات التحويل، التي تحتاج إلى قدرات تنظيمية واستخراجية وتوزيعية ..الخ. ولامتلاك هذه القدرات حسب الموند، يحتاج النظام إلى تنمية أبنية متخصصة تؤدي وتقوم بوظائف التحويل، أي يحتاج إلى التمايز المتزايد والتخصص المتزايد، ويحتاج إلى قدرات عالية في التنظيم والاستخراج قبل أن يبدأ في توزيع وتخصيص الموارد. بمعنى آخر إن تطوير القدرات ناتج عن عملية التمايز والتخصص التي يعتبرها الموند الركن الرئيسي في التنمية السياسية. لكن الدول النامية حسب الموند لا تمتلك قدرات فعلية في هذه الجوانب، لان القدرات تحتاج إلى تمايز بنيوي وعلمانية ثقافية وموارد ومهارات المجتمع الحديث. لذا فهي تواجه صعوبات في الاستجابة للضغوط المتصاعدة ( المطالب )، مما يؤدي إلى أن العديد منها يواجه مشاكل عدم الاستقرار ([35] ). فالنظام السياسي حسب ديامنت يخضع لتحول في بنيته ووظائفه في عملية التحديث، والتنمية السياسية في شكلها الأكثر عمومية هي العملية التي يكتسب فيها النظام السياسي قدرة متزايدة على المتابعة الناجحة والمستمرة لأنواع جديدة من الأهداف والمطالب، وعلى خلق أبنية جديدة للمنظمات. ولكي تستمر هذه العملية لابد من وجود نظام سياسي مركز ومتميز الأبنية، ولا بد أن يكون قادرا على فرض الموارد والقوة على مجالات واسعة وأقاليم واسعة من المجتمع ([36] ).
لكن الأزمة تنشأ نتيجة عدم تطور النظام وبنيته وعدم قدرتها على تلبية المطالب واستيعاب المدخلات تلك ومعالجتها، وعدم قدرته على الاستجابة لحاجات ومتطلبات النظم الاجتماعية الأخرى، اقتصادية وثقافية واجتماعية وغيرها. وقد صنفت الأزمات من منظري التنمية السياسية بطرق مختلفة.
يرى الموند أن أزمات أو مشاكل التنمية تتمثل في أربعة هي ([37] ):
أ- مشكلة بناء الدولة: وهي تتعلق بعدم قدرة السلطة المركزية على التوحيد والسيطرة وإخضاع كافة فئات المجتمع لسلطتها.
ب- مشكلة بناء الأمة: وترتبط بالهوية وولاء الجماعة، حيث أن هناك ولاءات محلية أقوى من الولاء للأمة.
ت- مشكلة المشاركة: عدم وجود فرص للمشاركة وغياب آليات لمشاركة المواطنين في عمليات صنع القرارات في النظام السياسي.
ث- مشكلة التوزيع: عدم توزيع القيم والسلع والخدمات بصورة عادلة وكافية من النظام السياسي إلى المواطنين.
أما لوسيان باي فقد اعتبر أن هناك ستة أزمات للتنمية تتمثل في ([38] ):
أ- أزمة الهوية: وهي مشكلة الولاء والانتماء إلى جماعات محدودة مثل الولاء العشائري مقابل الولاء للمجتمع القومي.
ب- أزمة الشرعية: وتتعلق بدرجة قبول ورضا الناس عن النخب الحاكمة وسياساتها.
ت- أزمة التغلغل: وهي مدى سيطرة النظام وامتداد سيطرته وسلطاته إلى كافة أطراف المجتمع، وقدرته على التأثير الفعال في مختلف أرجاء الإقليم.
ث- أزمة المشاركة: وتشير إلى مدى مشاركة المواطنين في الحياة السياسية وفي صنع القرار.
ج- أزمة الاندماج: وتتعلق بمدى تنظيم النظام السياسي ككل ، كنظام علاقات متفاعلة. وتشير إلى علاقة شاغلي الأدوار بوكالات الحكومة وعلاقة الجماعات ببعضها، وقدرة الأجهزة الإدارية والسياسية على أداء الوظائف المنوطة بها.
ح- أزمة التوزيع: وتشير إلى توزيع الموارد والقيم المادية والمنافع، لتلبية احتياجات ومطالب المواطنين والمجتمع.
ويؤكد دكتور أحمد وهبان في مؤلفه " التخلف السياسي وغايات التنمية السياسية " ما طرحه لوسيان باي، لكنه يرى أن هناك أزمتان إضافيتان لما جاء به هما: أزمة الاستقرار، التي تشير إلى وجود مشاكل تعاني منها مجتمعات العالم الثالث، بسبب التنوع العرقي، أو غياب أيديولوجيا واحدة وقيم وأهداف متفق عليها. وأزمة تنظيم السلطة، التي تتعلق بعدم خضوع الوصول إلى السلطة وممارستها وتداولها لنظام قانوني ( دستور ) يلزم الحكام، حيث أن السلطة في دول العالم الثالث هي سلطة مشخصنة ([39] ).
ويعتبر وهبان أن التنمية السياسية هي " عملية سياسية متعددة الغايات تستهدف ترسيخ فكرة المواطنة، وتحقيق التكامل والاستقرار داخل ربوع المجتمع، وزيادة معدلات مشاركة الجماهير في الحياة السياسية، وتدعيم قدرة الحكومة المركزية على إعمال قوانينها وسياساتها على سائر إقليم الدولة، ورفع كفاءة هذه الحكومة فيما يتصل بتوزيع القيم والموارد الاقتصادية المتاحة، فضلا عن إضفاء الشرعية على السلطة بحيث تستند إلى أساس قانوني حق فيما يتصل باعتلائها وممارستها وتداولها، مع مراعاة الفصل بين الوظيفتين التشريعية والتنفيذية، بحيث تقوم على كل منهما هيئة مستقلة عن الأخرى، فضلا عن إتاحة الوسائل الكفيلة بتحقيق الرقابة المتبادلة بين الهيئتين " ([40] ).
وهذا التعريف مبني على موضوعة الأزمات المذكورة، والرؤية التي ترى أن التنمية السياسية تكون بحل تلك الأزمات والتغلب عليها. حيث أن الأزمة هي نتاج تغييرات وأحداث على صعيد النظام السياسي نفسه أو في تفاعله مع النظم الفرعية الأخرى في المجتمع والتي تشكل بيئته الداخلية، أو من بيئته الخارجية. وهذا يتوقف على طبيعة المطالب، وتوفر الموارد. فإذا زاد ضغط المطالب وكان هناك عجز في الموارد، تنشأ الأزمة. وحدة الأزمة واتساعها يتوقف بصورة كبيرة على أداء النظام وقدرته على الموازنة بين المطالب والموارد، وقدرته على إنتاج مخرجات قادرة على الاستجابة والتوزيع ([41] ). ويرى ريتشارد هيجوت أن القدرة على حل الأزمة هنا تتعلق بالنخب الحاكمة خاصة، وليس بالتنمية وتحديث المجتمع. حيث أن دراسة ومعالجة هذه الأزمات تم من زاوية مدى تهديدها لوضع هذه النخب ودورها في الحفاظ على النظام القائم. وهذا أدى إلى ميل دراسات التنمية السياسية لدعم ومناصرة النظام كغاية وليس كوسيلة للوصول إلى مجتمع حديث ([42] ).
2.1. النظرية الماركسية والتنمية السياسية:
حلل كارل ماركس المجتمع الرأسمالي وتطور المجتمع البشري انطلاقا من المفهوم المادي للتاريخ، ووضع الأسس لما يعرف ب " المادية التاريخية "، التي صارت تشكل الإطار الرئيسي لعلم الاجتماع الماركسي، وتوفر له الأسس النظرية والمنهجية في دراسة الأبنية والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية.
يعتبر مفهوم التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية أهم مفهوم في المادية التاريخية في تشخيص وتحليل تطور المجتمع البشري. حيث أن كل تشكيلة اقتصادية اجتماعية هي جهاز اجتماعي خاص يتطور حسب قوانينه الخاصة به. وما يحدد طبيعة وخصائص كل تشكيلة منها، أو كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع البشري، هو " أسلوب الإنتاج " الخاص بها، الذي هو شكل معين ومحدد لنشاط الناس المعيشي ونمط حياتهم، ويتألف من وحدة قوى الإنتاج ( أدوات ووسائل الإنتاج والبشر المنتجين) وعلاقات الإنتاج ( التي تنشأ بين الناس في نشاطهم الإنتاجي). وتدرس المادية التاريخية تطور تاريخ المجتمع البشري على أنه عملية تاريخية طبيعية واحدة مقوننة لتطور الإنسانية، ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أكثر تطورا، لها ميزاتها وخصائصها وقوانينها. وقد مر المجتمع البشري في تطوره بخمس مراحل أو تشكيلات اقتصادية اجتماعية، تنقسم إلى مجموعتين كبيرتين، الأولى هي التشكيلات الطبقية المتناقضة، وهي تشكيلة الرق أو العبودية، والإقطاعية، والرأسمالية. وهذه التشكيلات تقوم على أساس علاقات السيطرة واستغلال الإنسان للإنسان، لأنها قائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. كما أن المشاكل الاجتماعية فيها خلال عملية التطور تحل بالنضال الطبقي المرير، وعن طريق الثورات. والمجموعة الثانية هي التشكيلات اللاطبقية القائمة على علاقات التضامن والمساواة الاجتماعية، وتضم مرحلة المشاعية البدائية والمرحلة الشيوعية التي تعتبر أعلى مراحل تطور المجتمع البشري ([43] ).
اعتبر ماركس أن انتشار الرأسمالية وتوسعها أدى إلى القضاء على الحياة التقليدية للمجتمعات الأوروبية وشجع على التصنيع، وحررت الفلاحين من نظام الإقطاع، وأقامت علاقات إنتاج اجتماعية رأسمالية. حيث أن الرأسمالية حطمت التشكيلات التقليدية الجامدة، وأنشأت نمطا إنتاجيا عصريا وحديثا وأكثر عقلانية. غير أن الرأسمالية أيضا في تطورها تنطوي على جوانب سلبية وسيطرة واستغلال من نمط جديد بسبب الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ([44] ).
وترى الماركسية أن كل تشكيلة اجتماعية اقتصادية طبقية، تسود فيها أيديولوجية الطبقة المسيطرة، ومع تفاقم التناقضات الاجتماعية، تظهر أيديولوجية جديدة تعكس مصالح الطبقات المضطهدة. ومع انقسام المجتمع إلى طبقات تصبح العلاقات السياسية والحقوقية والأخلاقية وغيرها، شكلا للعلاقات الأيديولوجية، ويدخل الناس في هذه العلاقات مع ظهور الوعي الطبقي، حيث أن نضال وتطور نضال الطبقة العاملة السياسي ضد الرأسمالية لا يمكن بدون نظرية ثورية وحزب ثوري للحركة العمالية، أي بدون وعي سياسي للجماهير ([45] ). إن الأيديولوجية كجزء من البناء الفوقي يظهر معها مؤسسات ومنظمات مختلفة كالدولة والمؤسسات القانونية والأحزاب السياسية، والاتحادات المهنية والمنظمات الدينية والمؤسسات الثقافية والعلمية وغيرها. وتعتبر الدولة المؤسسة الرئيسية للبنيان الفوقي في المجتمع الطبقي والتي تحرسه وتحميه. فبمساعدتها تصبح الطبقة المسيطرة على الاقتصاد، مسيطرة في مجال البنيان الفوقي أيضا. والدولة تملك وسائل مادية للسلطة، مثل الجيش والشرطة والسجون، لتتمكن بواسطتها من القيام بوظيفتها وإخضاع المجتمع لمصالح وإرادة الطبقة المسيطرة ([46] ).
إن مهمة الثورة الاشتراكية هي الاستيلاء على السلطة السياسية من جانب العمال، أي الاستيلاء على الدولة، وبناء اقتصاد اشتراكي والقضاء على العلاقات الرأسمالية، بالتحالف مع الجماهير الكادحة في الريف والمدينة، بقيادة الحزب الشيوعي ([47] ). إلا أن المسالة المهمة في دول العالم الثالث هو عدم تبلور الطبقات بالصورة التي عليها في المجتمعات الرأسمالية. وقد استخدم ماركس مفهوم " نمط الإنتاج الآسيوي " كوسيلة نظرية لدراسة المجتمعات غير الأوروبية، والتي تتميز بخصائص معينة مثل: غياب الطبقات وغياب الملكية الخاصة وهيمنة الدولة، وتتميز بأنها مجتمعات زراعية منغلقة على ذاتها، وسيادة الروابط العائلية والعشائرية في المجتمع. واستخدم جزء من الباحثين هذا المفهوم في تحليل قضايا التنمية والتخلف ([48] ).
وتناولت نظرية الامبريالية التي جاء بها لينين لاحقا موضوع التخلف والتنمية بصورة غير مباشرة، كنتاج للصراع الامبريالي. واعتبرت أن القوى الامبريالية هي المستفيد الأول من النظام الرأسمالي الدولي، حيث أن سياساتها الاستعمارية عطلت تنمية دول العالم الثالث وتسببت في تخلفها ونهبت مواردها. أما الماركسية المحدثة فتنطلق من التناقض بين الامبريالية وشعوب البلدان النامية، وتفهم العالم كوحدة واحدة، مع الاهتمام بموضوعة الخصوصية التاريخية والثقافية للبناء الاجتماعي. لذا درست التنمية والتخلف انطلاقا من بحث الأبعاد التاريخية للتخلف، وبحث صور تراكم التخلف أثناء عملية التنمية ذاتها ([49] ). ورأى عدد من الباحثين أن الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في البلدان النامية تتميز بخصائص معينة، تجعلها مختلفة في بنيتها عن المجتمعات المتقدمة، إضافة إلى الاختلافات بين هذه البلدان نفسها. ونتج عن ذلك دراسة هذه البنى الاقتصادية الاجتماعية من زاويتين مختلفتين، إحداهما ترى بعدم وجود النمط الرأسمالي في هذه البنى، والثانية ترى أن الرأسمالية في تلك البنى لم يكتمل تطورها، وأنها رأسمالية تابعة أو محيطية ([50] ).
ومن الذين قالوا بوجود رأسمالية تابعة، أو نمط خاص من الرأسمالية في بلدان العالم الثالث، المفكر اللبناني مهدي عامل. حيث يرى في دراسته لأثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، أن التغلغل الاستعماري احدث تفككا نسبيا في البنية الاجتماعية للبلدان المستعمرة، كان نتيجته تكون علاقات إنتاج جديدة متميزة، تختلف عن علاقات الإنتاج الرأسمالية كما تتجلى في البلدان الأوروبية. كما انه إضافة إلى ما أحدثه من تغير في حركة تطور هذه البلدان التاريخي ومنطقه الداخلي، جعلها تخضع لمنطق التبعية الكولونيالية. ويرى بان العلاقة الكولونيالية هذه، هي علاقة تبعية بنيوية بين بنيتين اجتماعيتين مختلفتين، بنية اجتماعية رأسمالية اكتمل تكونها منذ زمن بعيد، ودخلت في مرحلة تطورها الامبريالي من جهة، وبين بنية اجتماعية لم يكتمل بعد تكونها، بل هي في مرحلة من التكون الجديد، من نظام إنتاج سابق للرأسمالية إلى نظام إنتاج آخر هو في الظاهر النظام الرأسمالي. إنها علاقة لا يوجد بها تكافؤ، بل هي علاقة سيطرة بنيوية، تسيطر فيها البنية الأولى على البنية الثانية وتحدد تطورها ([51] ).
ويرى بعض الكتاب الذين يأخذون بالخصوصية التاريخية لبلدان العالم الثالث أن مجتمعات هذه البلدان تتميز ببعض الخصائص؛ حيث التطور الداخلي فيها لم يجري بشكل طبيعي نتيجة السيطرة الاستعمارية؛ كما أن هناك عناصر متداخلة ومتناقضة ومتجاورة مع عناصر أخرى؛ ووجود أشكال وأنماط متنوعة للإنتاج والطبقات والشرائح الاجتماعية؛ مع تعدد القيم وتناقضها وتداخلها؛ وتعدد الايديولوجيا وعدم وضوحها وتحددها؛ وعدم استقرار البناء الاجتماعي والسياسي؛ والنزعة العسكرية والسلطوية القمعية؛ ووجود مظاهر الانشقاق وتعدد التناقضات والخلافات في البناء الاجتماعي ([52] ).
حاولت الأحزاب الشيوعية قيادة الثورة في بلدان العالم الثالث، لكنها اتبعت خطا معاديا للبرجوازية القومية في هذه البلدان، وكان تأثيرها على الحركات القومية بين الحربين العالميتين تأثيرا ضعيفا، باستثناء الصين، التي قدمت تجربة مهمة للرؤية الماركسية للتنمية السياسية في العالم الثالث. وتحققت الثورة الصينية من تحالف المثقفين ممثلين بالحزب الشيوعي والفلاحين، حيث كان دور الطبقة العاملة الصناعية ضئيلا فيها، كما أنها لم تعادي الطبقة البرجوازية. وبعد الحرب العالمية الثانية أيضا دعم الاتحاد السوفيتي الديمقراطيات القومية الناشئة، واعتبر أنها سوف تتطور وتنمو صناعيا مما يمكن من تحقيق الثورة في إطار تحالف العمال والفلاحين. ولقد كان هدف التنمية السياسية لدى الماركسيين واضحا، وهو بناء الدولة الاشتراكية، وهذا يتحقق من خلال قيادة العمال والتحالف مع شعوب الدول المستعمرة المعادية للرأسمالية حليفة الثورة الاشتراكية ([53] ). ويعتبر مهدي عامل أن البرجوازية الوطنية في العالم الثالث والتي سارت بدرب التحرر الوطني والبناء الاقتصادي، قطعت شوطا توقفت عنده بعد فشلها في السير في هذا الطريق إلى نهاياته، فصار هناك تداخل بالضرورة بين القضية الوطنية والقضية الاجتماعية بعد هذا الفشل. وهذا الفشل ناتج عن طبيعة بنية الإنتاج الكولونيالي في دول العالم الثالث، التي هي بنية عاجزة وتتحكم بها العلاقة الكولونيالية. لذا أصبح هناك تداخل في مهام التحرر الوطني لانجاز التحرر من الاستعمار أو من الهيمنة الاستعمارية بأشكالها غير المباشرة، وبين الثورة الاشتراكية، لان الثورتين ثورة واحدة. حيث أن العلاقة الكولونيالية من حيث هي علاقة تبعية بنيوية، هي التي تحدد بالضرورة الثورة التحررية الوطنية ، في آليتها الداخلية كثورة اشتراكية، تقوم بها الطبقة العاملة ([54] ).
3.1. نظرية التبعية:
ظهرت نظرية التبعية بداية في أمريكا اللاتينية في ستينيات القرن العشرين، نتيجة عدم نجاح نموذج نظرية التحديث في تقديم تفسير حقيقي ومقنع لظاهرة التخلف في العالم الثالث، وكذلك نتيجة فشل خطط وعمليات التنمية في تلك البلدان في فترة الخمسينيات والستينيات. واعتبر منظري التبعية أن دراسات التنمية حاولت البرهنة على أن التخلف هو حالة متأصلة، ناتجة من طبيعة البنى الاجتماعية لبلدان العالم الثالث، ولم تنتج عن الاستعمار، بل هي موجودة قبله ([55] ). وتعتبر نظرية التبعية ردا على أسس وطروحات نظرية التحديث، وتنطلق من فرضية أن حالة التخلف وما ينتج عنها من مشاكل وأزمات هي ناتج من نواتج الحقبة الاستعمارية. وتفسر حالة التخلف الاقتصادي والسياسي من منطلق الظروف التاريخية التي مرت بها بلدان العالم الثالث، ووقوعها تحت السيطرة الاستعمارية للنظام الرأسمالي العالمي. كما أنها تعتبر أن هناك علاقة جدلية بين التنمية والتخلف، وبين الحداثة والتقليدية، وبين مختلف الظواهر بشكل عام ([56] ). وبمعنى آخر اعتبرت أن التنمية التي حدثت في العالم الرأسمالي المتقدم كانت على حساب الدول المستعمرة، وان الوجه الأخر لتلك التنمية هي تخلف دول العالم الثالث، ووقوعها في براثن التبعية والسيطرة الرأسمالية.
ظهرت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات دراسات عديدة لنقض الفرضية التي تقول بان التخلف هو حالة متأصلة في دول العالم الثالث. وعملت الدراسات التي قدمها منظرو التبعية مثل "اندريه جندر فرانك" وسمير أمين وغيرهما على تحليل واثبات أن السيطرة الرأسمالية هي المسئولة عن تخلف بلدان العالم الثالث حيث حللت الجوانب التاريخية للتخلف المرتبط بالاستعمار. وكان هذا التركيز على الجوانب التاريخية، إلى جانب الأسلوب الثوري لنظرية التبعية، من أسباب تسميتها بالنظرية الماركسية، أو الماركسية الجديدة، عند البعض، رغم أن رواد هذه المدرسة هم من علماء الاقتصاد الراديكاليين من اللجنة الاقتصادية لدول أمريكا اللاتينية ( أكلا) ([57] ). وكان انتشار نظرية التبعية عائد أساسا إلى علماء اقتصاديات التنمية من مفكري العالم الثالث، الذين اهتموا بالنواحي العالمية للاستغلال الاقتصادي، ولا يعود إلى الكتاب الماركسيين الذين اهتموا بظاهرة الامبريالية ([58] ). ويرى يوسف صايغ أن المفكرين الاجتماعيين في أمريكا اللاتينية الذين أصبحوا منظرو التبعية وصاغوا وطوروا مقولاتها، هم مجموعة تضم ماركسيين – محدثين، وبنيويين، ووطنيين تقدميين، أكدوا جميعا، عدا البنيويين، على دور التبعية المفروضة من الدول الرأسمالية، في إنتاج حالة التخلف واستمرارها ([59] ).
ويعف علي غربي التبعية بأنها: " ظرف تاريخي موضوعي تشكل تاريخيا على مدى زمني طويل يمتد إلى الفترة الاستعمارية، وهذا أدى إلى نشوء مجموعة من العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية، تعبر عن شكل من أشكال تقسيم العمل على الصعيد العالمي يتم بمقتضاها توظيف موارد مجتمع معين ( المجتمع التابع والمتخلف) لخدمة مصالح مجتمع آخر أو مجتمعات أخرى ( المجتمعات المتقدمة ) التي تمثل مركز أو قلب النظام الرأسمالي العالمي... إن دول المركز تمارس هيمنتها على الدول التابعة من خلال حكوماتها بإتباع سياسات اقتصادية عسكرية وغيرها... أو من خلال المؤسسات المالية كصندوق النقد الدولي وغيره والشركات المتعددة الجنسية. حيث تؤدي أوضاع التبعية إلى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التابعة وفقدانها لشروط إعادة تكوين ذاتها، ومن ثم تنميتها المنشودة ( الخروج من حالة التبعية ) " ([60] ). وطبيعة هذه العلاقة تؤدي إلى استمرار وإدامة سيطرة الدول المتقدمة وإبقاء الدول النامية في دائرة التبعية.
"اندريه جندر فرانك" احد رواد هذه النظرية، يعرف التبعية على: أنها وضع أو حالة تتكون من سلسلة كاملة من المراكز الكبرى والتوابع الصغرى تربط معا أجزاء النظام الرأسمالي بكامله من مراكزه إلى المواقع في هوامش وأرياف دول أمريكا اللاتينية. هذه التوابع تعمل كأداة لامتصاص واستنزاف رأس المال والفائض الاقتصادي من التوابع إلى المراكز المحيطة بها ومنها إلى مراكز النظام الرأسمالي. والنمو الذي يتحقق في الدول النامية في إطار تلك العلاقة هو نمو تابع، يفتقر إلى قوة دفع ذاتية، وتنقصه صفة الديمومة ([61] ).
وركزت نظرية التبعية على أن التنمية التي تتم في العالم الثالث هي تنمية تابعة أو تخلف، وهي نتاج توسع الدول الاستعمارية، وربط الاقتصاد المستعمر بحاجاتها. ويصف فرانك العلاقة بعلاقة التابع والمتبوع، أو العلاقة بين المركز والأطراف ( الهوامش ) حيث يحافظ المركز على علاقة التبعية بينه وبين الهامش، وتلك العلاقة تؤدي إلى استنزاف الفائض من الهوامش إلى المركز. وانتقد فرانك أشكال التجارة الدولية ونقل التكنولوجيا ورأس المال من الدول المتقدمة إلى الدول النامية. وعليه صاغ ما سمي ب " تنمية التخلف " حيث اعتبر أن أمريكا اللاتينية كانت متخلفة قبل الاختراق الرأسمالي، لكنها أصبحت أكثر تخلفا بعد هذا الاختراق. وأصبح الارتباط بين التنمية والتخلف ارتباطا سببيا، حيث أن التنمية التي حدثت في الغرب الصناعي تمت على حساب تخلف بلدان العالم الثالث، وهذا شكل ردا على القول بعدم وجود علاقة بين التنمية ( في الغرب ) والتخلف ( في العالم الثالث ) ([62] ).
المسألة الأساسية التي تطرحها نظرية التبعية هي التحليل الكلي لعملية تطور المجتمع، وتطرح رؤية نظرية تاريخية تظهر خصوصية المجتمعات التابعة وخصوصية تطورها. وهي بذلك تتبنى فكرة النسق العالمي كمنطلق من خلاله تكشف موقع الدول المتخلفة داخله، إضافة إلى اهتمامها بالبناء الاجتماعي لهذه الدول، كبناء تابع ومتخلف ومحكوم بنمط من تقسيم العمل الدولي. كما حللت نتائج التنمية الرأسمالية والتوسع الامبريالي وآثارها الاجتماعية والطرق التي من خلالها تتشكل الأبنية الاستغلالية الجديدة التي تعيق نمو الدول المتخلفة. ويعتبر الإسهام الأساسي لنظرية التبعية في إظهار أن تخلف دول العالم الثالث مرتبط بعملية التوسع الاستعماري والهيمنة الرأسمالية المعاصرة، وان التخلف ليس حالة متأصلة في طبيعة المجتمعات النامية. وهذا يشير إلى أن العامل الحاسم في إنتاج التخلف هو العامل الخارجي، وذلك ي