التوكل على الله ..
التوكل ( 1-2 )
روى البخاري والنسائي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}آل عمران173.
نقف مع هذا الحديث الوقفات الآتية :
الوقفة الأولى: يدل الحديث على أمر جلل ومسألة عظيمة ، تساهل فيها أقوام فضلوا واستسلموا للشياطين ، وصاروا نهباً للحيرة والضلالات ، وحادوا عن الطريق المستقيم ، وتمسك به عباد الله الموفقين فأيدهم ونصرهم ورزقهم وآواهم وحفظهم وأنزل عليهم السكينة والطمأنينة والراحة النفسية ، هذه القضية المهمة التي نتذكرها في كل ركعة من ركعات صلاتنا هي الاستعانة بالله والتوكل عليه : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والتي لا يجوز صرفها ولا صرف شيء منها لغير الله تعالى .
التوكل على الله : هو الاعتماد على الله تعالى وقوة الثقة به ، وأنه حسب العبد وكافيه ، موقناً أن الأمور كلها بيد الله تعالى فلا معين إلا هو ، ولا مغيث إلا هو ، ولا مصرف للكون إلا هو ، خالق الخلق ومدبر شؤونهم ، والعالم بأحوالهم .
فالمتوكل على الله هو الذي يعتمد عليه ويثق به ويلجأ إليه ويطمأن بموعوده .
ولعظم هذه المسألة في عقيدة المسلم أمر أن يتذكرها ، وأن يستصحبها في جميع أحواله وشؤونه ، فجاءت توجيهات الإسلام العامة ، والخاصة بأشياء معنية بهذا الأمر الجلل ، يقول الله تعالى : {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}المائدة23، وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ }يونس84.
وقال تعالى عن نوح عليه السلام : {يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ }يونس71، وقال عن هود عليه السلام : {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}هود56، وقال عن شعيب : {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}هود88، وقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}النمل79 وقال له : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}الأنفال64، وقال عن عباده المؤمنين : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}آل عمران173 .
فالتوكل على الله عبادة جليلة ، يجب إخلاصها لله سبحانه ، بل من أعظم العبادات القلبية التي يجب التنبه لها ومعاهدتها .
الوقفة الثانية: من رام المعالي هانت عليه السبل فهذه العبادة الجليلة لها أثار محمودة عظيمة فمن يريد تحصيلها فليخلص قلبه في طلب هذا التوكل .
فالتوكل على الله تعالى يورث صاحبه قوة وشجاعة ، وثباتاً واطمأناناً . تهون أمامه كل قوة ، فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار لم يزد على أن قال : (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فقال الله تعالى للنار : {كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}الأنبياء69 .
والتوكل على الله ينتج الرزق الواسع ، والخير العميم ، والفضل الكبير ، قال تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ) ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) ، فيبشر المتوكلون برزق الله تعالى وفضله وإحسانه ، والتوكل على الله سبيل لقطع الوساوس الشيطانية ، والهواجس المخيفة ، والارجاف في طلب المعاش خشية الفقر ، والتعلق بالأوهام والخزعبلات ، حال المصائب والأمراض ، والشيطان يحرص أن يدخل على الناس من هذه المداخل لكي يزعزع إيمانهم ، ويضعف يقينهم ، ويخلخل عقيدتهم . فالذي يعتمد على الله تعالى ويتوكل عليه يرى حقارة هذه الوساوس والخزعبلات .
والتوكل على الله تعالى سبيل السعادة والراحة النفسية ، فأسعد الناس في هذه الحياة المتوكلون على الله تعالى حق توكله ، إذ إنهم يعلمون أن الحياة السعيدة ليست بكثرة المال والعرض ، أو الجاه أو النصب أو غيرها ما لم يعمر هذه الأشياء إيمان عميق ، قال الله تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً ) .
التوكل ( 2 - 2 )
تحدثنا في الحلقة السابقة عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفي هذه الحلقة نكمل بقية الكلام عليه:
الوقفة الثالثة : إن من تمام عقيد المسلم تجاه التوكل أن يعلم أن التوكل لا يعني ترك الأسباب المشروعة ، المأمور بها ، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخل إلى المسجد ليصلي ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعقل دابتي أو أتوكل على الله ؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام : ( اعقلها وتوكل ) ، وكما جاء في فتح المجيد قوله : قال العارفون : التوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوباً بنوع من التوكل ، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ، ولا عجزه توكلاً ، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها كما ذكر ذلك ابن القيم وغيره .
وهذا معروف في الحياة فلا نسل بدون زواج ، ولا ثمرة بدون زرع ، ولا رزق بدون عمل ، فالمسلم مطالب بأن يحقق التوكل على الله ويبذل الأسباب ولكن لا يتكل عليها . فالنتائج بيد الله سبحانه.
* * *
الوقفة الرابعة : في الحياة تقلبات ، أحوال وأحداث ، وأفراح وأتراح ، وشدة وضيق ، ولذا تحصل هفوات في تعامل المسلمين مع توكلهم على الله : فتجد بعضاً من المسلمين يجري على ألسنتهم الخوف من المستقبل ، والتشاؤم فيه ، وكأن الأمور بيد البشر ، وكذا تعلق بعض المسلمين بالسحرة والكهان والمشعوذين ، وطلب شفاء أمراضهم منهم ، وتصديق أخبارهم وإرجافاتهم وخزعبلاتهم ، وكذا الشعور الدائم بالقلق من أمور الدنيا وعدم الثقة بالله وبموعوده ، وكذا الطمع والجشع المؤديان إلى الشح والبخل والخوف على الرزق وعدم صرفه بمصارفه الشرعية ، والتعلق بالطبيب المعالج واعتقاد أن الشفاء عنده أو بأدويته ، أو التداوي بالأدوية المحرمة ، أو الخوف على رزق الأولاد ومستقبلهم ، أو النفاق والمجاملة المذمومة مع الآخرين لطلب ما عندهم دون الله سبحانه ، فضلاً عن طلب شفاعتهم فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وكذا طلب الرزق من الطرق غير المشروعة ، والتفكير السلبي المتشائم من المستقبل ، وكذا الاستجابة لوساوس وأوهام الشياطين؛ كل هذه المظاهر وغيرها مردها ضعف التوكل على الله ، وقلة اليقين بالله سبحانه ، وعدم إحسان الظن به .
منقول