إن انتشار التهاجر والتخاصم بين المسلمين من أخطر العوامل التي تفتت المجتمع المسلم وتضعف قوته, لذا حذرنا النبي صلى اللّه عليه وسلّم منه أشد التحذير. فتعال أخي الحبيب نستعرض هذا الداء الوبيل من خلال النقاط التالية:
-هل صلاة المخاصم تقبل عند الله تعالى ؟
-ما عقوبة من هجر أخاه لمدة سنة؟
-هل الكبر علي أهل الكبر صدقة؟
-زميلي سليط اللسان وأنا أكرهه, فإذا تبسمت عند لقائه وألقيت عليه السلام, هل أكون منافقا ذا وجهين؟
-إذا كنت أكرهه وهو يكرهني فما الفائدة في إلقاء السلام؟ ألا يكون من الأفضل أن يكون كل منا في حاله بلا سلام ولا كلام تجنبا للمشاكل؟
-لي جار نمام, ونصحته فلم ينتصح, فهل يجوز أن أهجره ؟ وما هي ضوابط الهجر الشرعي؟
-صاحبي هو الذي أخطأ في حقي, فإذا بدأته بالصلح سيقول الناس أنني ذليل و مهان!!!
-جاري هو الذي أخطأ في حقي, فالإثم عليه هو, ويجب عليه أن يبدأ بالصلح, أما أنا فليس علي ذنب!!!
...................................
-هل صلاة المخاصم تقبل عند الله تعالى ؟
روي مسلم في باب النَّهي عن الشَّحناء والتَّهاجر (2565) عن أبي هريرة-رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم، قال: «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: ارْكُوا (أي أخروا) هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»
ولعل هذا من أشد الأحاديث ترهيبا من الهجر, وينبغي أن يكون من أقوى الدوافع لإنهاء الخصومة. ومما ورد أيضا في هذا الباب ما رواه ابن ماجه في باب من أمَّ قومًا وهم له كَارهون (971)بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرْفَعُ صَلَاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَأَخَوَانِمُتَصَارِمَانِ ( أي: متخاصمان) » (حسنه الإمام النووي في كتابه: خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام: 2/703)
-ما عقوبة من هجر أخاه لمدة سنة؟
روي أبو داود في باب فيمن يهجر أخاه المسلم (4914) بسنده عن أبي خراش السلمي-رضي اللّه عنه- أنّه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم يقول: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ» (صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة برقم:928)
-هل الكبر علي أهل الكبر صدقة؟
كثير من المسلمين يظنون هذه العبارة (الكبر علي أهل الكبر صدقة ) حديثاً صحيحا, وبالتالي قد يهجر المسلم أخاه المتكبر – حسبما يراه – ولا يرى في ذلك أي غضاضة, بل يرى أنه يتصرف متبعا لحديث صحيح فهو مأجور علي هذا الهجر, بينما لو رجعنا إلي أهل العلم المعتبرين لعلمنا أنه حديث لا يثبت, كما نص علي ذلك العلامة ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير(24/51).وإنما ينبغي علينا أن نستشعر أن المتكبر عنده من المرض النفسي و الهم الداخلي ما يحتاج معه إلي أن نصبر عليه, ونجتهد في دعوته إلي سبيل المتواضعين, لعل الله أن يجعلنا سبباً في هدايته.
-زميلي سليط اللسان وأنا أكرهه, فإذا تبسمت عند لقائه وألقيت عليه السلام, هل أكون منافقا ذا وجهين؟
بوب البخاري رحمه الله تعالى في الجامع الصحيح بقوله: "باب المداراة مع الناس " وقال: "يذكر عن أبي الدرداء "إنا لنكشر( نتبسم ) في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم ".
وعن عائشة رضي الله عنها أنه أستأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: «إئذنوا له بئس أخو العشيرة»فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول، فقال: «أي عائشة:إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه»
وعلق الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى على هذا الحديث في الفتح (10/528)بقوله: " قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب تأليف القلوب.وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة... وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه"
فأنت عندما تتبسم في وجهه وتلين له الكلام بنية تأليف قلبه, مع الإنكار عليه بأسلوب حسن بكلمة طيبة أو محاضرة نافعة أو رسالة بالجوال أو غير ذلك من وسائل الدعوة, فهذا أبدا ليس نفاقا, بعكس من يتبسم في وجه أخيه طمعا فيما عنده من الدنيا.
أيضا تذكر أخي أن سلاطة اللسان داء, لكن علاجه غير مستحيل,فاستعن بالله و لاتعجز, وكرر المحاولة ولا تيأس, و«لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»
- إذا كنت أكرهه وهو يكرهني فما الفائدة في إلقاء السلام؟ ألا يكون من الأفضل أن يكون كل منا في حاله بلا سلام ولا كلام تجنبا للمشاكل؟
روي البخاري في باب الهجرة (6077) بسنده عن أبي أيّوب الأنصاريّ- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال: « لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام»
فالمسلم الحق إذا سمع هذا الحديث ينبغي أن يبادر بالعمل بمقتضاه ولا يقدم مثل هذه الحجج العقلية على كلام من لا ينطق عن الهوى – صلى الله عليه وسلم – حتى لو لم يظهر له وجه الحكمة فيه, فقد قال الله تعالى في الآية 59 من سورة النساء: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر),ولقد عبر الإمام الطحاوي عن هذا المعنى في العقيدة الطحاوية فقال:ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام.
وقد ضرب لنا الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في سرعة الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم,فلنقتد بهم ولنتبع آثارهم لعلنا نسعد كما سعدوا ونفوز كما فازوا.
هذا لو افترضنا أنه ليس هناك حكمة ظاهرة في هذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم, لكننا لو تأملنا فيه قليلا لوجدنا حكما كثيرة, يبين أحدها ما رواه مسلم عن أَبِي هريرة، قال: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».
ولعل من هذه الحكم أن جاري هذا المؤذي إذا مرض فسيكون من السهل علي أن أزوره, وأستغل فرصة مرضه في دعوته بكتيب أو مطوية أو غيرها من وسائل الدعوة, أما إذا لم يكن بيني وبينه حتى إلقاء السلام, فسيكون من الصعب علي أن أزوره في هذا الحال,والإنسان عند مرضه غالبا ما يرق قلبه, ويصير أكثر قبولا لدعوة الحق, وكثيرا ما قرأنا أو سمعنا عن أناس كانوا من أظلم الناس وأفسقهم, انضموا لقوافل التائبين بأسباب يسيرة جدا, خاصة في حالات المرض أو الضعف, فينبغي ألا نستبعد الهداية على أحد, ولنجتهد في استغلال الفرص.
-لي جار نمام, ونصحته فلم ينتصح, فهل يجوز أن أهجره ؟ وما هي ضوابط الهجر الشرعي؟
الهجر الشرعي لأجل زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع الناس عن مثل حاله, من أقوي الأدلة علي مشروعيته قصة هجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لكعب بن مالك وصاحبيه – رضي الله عنهم - لما تخلفوا في غزوة تبوك.
ولكن هذا الهجر له ضوابط مهمة يجب التقيد بها,ويوضح ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى(28/204 – 208): (...الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كان هجره يضعف الشر؛ كان مشروعاً،وإن كان المهجور لا يرتدع بذلك، ولا يرتدع به غيره، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف، وتكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته, لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، كما كان الهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى اللّه عليه وسلّم يتألف قوماً ويهجر آخرين,وينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق النفس، فالهجر لحق الله تعالى مأمور به، والهجر لحق النفس منهي عنه)
وقال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - في الشرح الممتع على زاد المستقنع: المجلد الثاني عشر: بَاب وَلِيمَةِ العُرْسِ: (...لأن الأصل أن هجر المؤمن حرام لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال»، فإن لم يكن مصلحة صار الهجر حراماً، إذ لا يحصل منه إلا عكس ما نريد، وأما ما يفعله بعض الإخوة المستقيمين الغيورين على دينهم من هجر أهل المعاصي مطلقاً فغلط، ومخالف للسنة.)
-صاحبي هو الذي أخطأ في حقي, فإذا بدأته بالصلح سيقول الناس أنني ذليل و مهان!!!
روي مسلم في باب استحباب العفو والتواضع (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»وواقع الناس ينطق بلسان الحال مصدقا لهذا الحديث, فتجد المسلم المتصف بالعفو ذا مكانة بين الناس, ويجعل الله تعالى له في قلوب عباده ودا و إكباراً, بعكس المسلم الشديد الخصام, الذي يحرص علي أن يحصل علي حقه كاملاً غير منقوص.
ثم إن الأصل أن المسلم ينهي الخصومة طلباً لرضا الله تعالى, فإذا كانت هذه نيته فلا يضره كلام الناس مهما قالوا.
كما أن رضا الناس – في الغالب – غاية لا تدرك, فإذا صالحته فسيقال: ذليل و مهان, وإذا صممت على الخصام فسيقال: مغرور ومتكبر, فالعاقل الحصيف هو من يقدم رضا رب الناس على كلام الناس.
-جاري هو الذي أخطأ في حقي, فالإثم عليه هو, ويجب عليه أن يبدأ بالصلح, أما أنا فليس علي ذنب!!!
ذكرنا فيما سبق ما رواه البخاري بسنده عن أبي أيّوب الأنصاريّ- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال: «لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام»
فلم يقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أن المخطئ يجب عليه أن يبدأ بالسلام, ولكن قال(وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام)فكن أخي الحبيب خير الرجلين.
كما أذكرك أخي الحبيب أن أخاك الذي تخاصمه غالبا ما يصور له الشيطان أنك أنت الذي أخطأت في حقه, وليس هو, فلا تدع الفرصة للشيطان أن يتسلط عليكما,وبادر بإنهاء الخصومة بالتوجه إلي أخيك الذي تخاصمه, وإلقاء السلام عليه بوجه بشوش وصدر منشرح, فإن قبل منك فذاك, وإلا فوسط طرفا ثالثا يتدخل بينكما لتقريب وجهات النظر, وبعد إنهاء الخصام أنت بالخيار: إن رغبت أن تستمر في مصاحبته مع اجتهادك في تصحيح أخطائه فلك ذلك, وإن شعرت أن ذلك يصعب عليك ورغبت أن تقتصر في علاقتك به على الحد الأدنى من العلاقة بين المسلمين فلك ذلك. وإذا علم الله تعالى صدق نيتك فسوف ييسر-سبحانه - كل عسير
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
كتبه : أخوك المحب: أبوأنس