عرض محرر الشؤون الأمنية في صحيفة «يديعوت أحرنوت» رونين بيرغمان قصة الجاسوس الأسترالي بن زايغر، الذي قتل في زنزانة إسرائيلية قبل عامين، في تقرير موسع بعنوان « دُفن بن ولم تُدفن قصته».
وعرض بيرغمان في بداية التقرير قصة كان هو من كشفها قبل ست سنوات، وتتعلق بضابط في سلاح البحرية الإسرائيلية يدعى ألكسندر إيبور ـ إسرائيل. وقد تورط إيبور في قضية ديون، الأمر الذي دفعه في العام 1954 لعرض وثائق سرية على أحد الملحقين العسكريين الأجانب في روما بقصد الحصول على أموال مقابلها. وعندما علم جهاز الموساد بذلك قام باختطاف إيبور من باريس في عملية معقدة بعد تنويمه ووضعه في صندوق كبير، وتم نقله جواً إلى إسرائيل لمحاكمته سراً بتهم التجسس الخطير.
ويشير بيرغمان إلى أنه تم إعداد زنزانة خاصة به أيضاً في سجن الرملة. لكن الخطة تشوشت جراء خطأ في حقنة التنويم، الأمر الذي قاد إلى وفاة إيبور في الطائرة. وبعد التحقق من وفاته أمر رئيس الموساد بحمله في طائرة أخرى وإلقاء جثته في أعماق البحر. وأشاع الشاباك في الصحف أن الضابط هاجر إلى أميركا اللاتينية، وبالطبع تم إسكات الصحافة ودفنت القضية إلى أن تسرب أمرها في العام 2006، فنشرتها «يديعوت».
وكتب بيرغمان أنه «سيكون من الصعب المبالغة في وصف الجهود التي بذلتها الدولة، وما زالت تبذلها الى اليوم، كي لا يعلم ابنه الحقيقة»، مضيفاً «فقد جُندت إجراءات قضائية صارمة ومواقف لا هوادة فيها، ومجموعات كبيرة من المحامين والإجراءات السرية اعتلالاً بأمن الدولة، جُندت كلها كي تُبقي هذه القضية سرية».
ونقل بيرغمان عن الشخص الذي كان سرب له قصة إيبور، قوله إن أكثر من نصف قرن مر «لكن شيئاً لم يتغير». وأشار إلى خطوط تشابه غير قليلة بين القضيتين أي أيبور وزايغر، وهي الاشتباه بتسليم رجل أمن أسراراً إلى جهات أجنبية، ثم اعتقاله وجلبه إلى إسرائيل بسرية شديدة، ووفاته في ظروف غامضة، وبعد ذلك جهود لإخفاء القصة من جانب مؤسستي الأمن والقضاء.
وبعدما عرض بيرغمان للمعلومات التي تسربت عن اعتقال وانتحار «السجين إكس»، ومحاولات رفع السرية عن هذه المسألة، بيّن أن ما كان يمنع النشر هو الخوف من المساس بأرواح آخرين. ويقدم بيرغمان معلومة تفيد بأن الصحافي الأسترالي جايسون كاتسوكيس، الذي كان أول من اشتبه بعمالة بن زايغر وتواصل معه، كان يسكن إسرائيل وهو يسكن في بيروت حالياً.
وكان كاتسوكيس قد حصل من جهة استخبارية في العام 2009 على معلومات عن ثلاثة إسرائيليين يحملون جوازات سفر أوسترالية، وأنشأوا لحساب الموساد شركة وهمية لتجنيد عملاء للتجسس في إيران ولبيعها أيضاً معدات إلكترونية. وأكد كاتسوكيس أن زايغر كان واحداً من هؤلاء الثلاثة، وأن السلطات الأوسترالية كانت تضيق الخناق عليهم.
وكانت السلطات الأمنية الأوسترالية قد اشتبهت بزايغر قبل اغتيال الناشط في حماس محمود المبحوح بحوالي نصف عام بعدما غيّر اسمه في جواز السفر الأوسترالي أربع مرات.
وأشار كاتسوكيس إلى أن زايغر طلب رخصة للعمل في إيطاليا. وقد اتصل كاتسوكيس بزايغر في شباط العام 2010 وسأله عن علاقاته بالموساد، وزياراته إلى سوريا ولبنان وإيران. وأنكر زايغر أي علاقة له بالموساد. وهنا يتساءل بيرغمان حول ما إذا كان انكشاف زايغر للصحافيين والسلطات الأوسترالية وراء اعتبار الموساد ذلك خيانة واعتقاله؟
وبعدما يشير بيرغمان إلى اغتيالات نفذت في إيران واتهمت إسرائيل بتنفيذها، يفيد بأنه إذا صحت المعلومات فإسرائيل بحاجة لغير الإسرائيليين لجمع المعلومات وتنفيذ العمليات. وأنها لهذا الغرض تجند أناساً حتى من دون أن يعلموا أنهم يعملون لصالح الموساد. وبعد ذلك يتساءل عن سبب عدم كشف النقاب عن هذه القصة قبل الآن برغم توفر أسباب للنشر. فهناك قبر وهناك عائلة ثكلى في أستراليا، وشبهات من جانب السلطات الأسترالية، وخبر نشر في موقع «يديعوت» الإلكتروني، وأزيل بعد حين، وبالتالي أناس كثيرون يعرفون القصة.
وبيّن بيرغمان أن المؤسسة الاستخبارية الإسرائيلية لم تبذل جهداً كافياً لتقليص الأضرار بعدما تبين أن القصة افتضحت في أستراليا. ومارست إسرائيل عبر الرقابة سياسة إسكات سرعان ما تحولت إلى عصا مرتدة.
وحاول بيرغمان تفسير الإصرار الرسمي الإسرائيلي على السرية عبر «استلال الاختراع الذي اكتشفه بن غوريون في خمسينيات القرن الماضي، وهو عقد اجتماع طارئ للجنة المحررين». ويشرح أن «مبدأ بن غوريون هو إطلاع رؤساء تحرير وسائل الاعلام على المعلومات السرية، ومقابل ذلك يمتنعون عن تغطية تلك القضية»، ويضيف «غير أن مجرد نشر نبأ جمع رؤساء التحرير زاد في قوة رقصة الأشباح. ويقول صحافي أجنبي رفيع، قديم في إسرائيل، إنه في اللحظة التي رأينا فيها انهم استدعوا المحررين أدركنا ان التحقيق الأسترالي جدي ويتناول قضية شديدة الخطر حقاً. وإذا كنا قد تحيرنا حتى ذلك الحين هل نشتغل بالقضية، فإن الجمع العاجل للمحررين حررنا من الحيرة وأدركنا انه يجب علينا ان نتابع الأمر متابعة قوية».
ويبين بيرغمان أن الموساد سبق وناقش أمر تعيين متحدث رسمي بلسانه، ولكن الاقتراح كان يسقط حال إثارته. وينقل عن رئيس الموساد السابق الجنرال مئير داغان قوله، في معرض تبريره سقوط الاقتراح، «خلصت الى استنتاج ان هذا الحيوان لا يمكن إشباعه».
ويضيف محرر «يديعوت» أن للموساد تجربة غنية جداً مع الإعلام، من استعمال حملات تشهير، وتضليل وحرب استخبارية، مع غرس معلومات منتقاة في وسائل إعلام في الغرب والبلاد العربية، واستعمال وسائل الإعلام لدفع أهدافه قدماً، وليست المعلومات كلها كاذبة، بالعكس. فوسائل الإعلام في الغرب تنشر معلومات كثيرة دقيقة في جزء منها أو بصورة كلية عن المشروع النووي الإيراني.
ولكن محاولات المنع كانت تمنى بالفشل الذريع. وهذا حدث مع قضية المستخدم في المفاعل النووي في ديمونا مردخاي فعنونو، حين حاولوا إخفاء حقيقة اعتقاله في اسرائيل بعد اختطاف الموساد له في إيطاليا. وهذا أيضاً ما جرى مع عميل الموساد السابق فيكتور أوستروفسكي عندما أراد نشر كتاب عن الموساد، ورفض رفضاً قوياً سحبه، حتى حين عُرضت عليه تعـويضات مالية حسنة. وقد أوصى أحد كبار المغتالين في الموساد موشيه لفين (كوكلا)، رئيس الموساد شفتاي شافيت بقتل أوستروفسكي، واقترح آخرون اختطافه إلى اسرائيل. وقبل شافيت توصية مسؤول الاغتيالات أمنون غولدنبرغ بملاحقته قضائياً، وبادر إلى إجراء قضائي ضده في كندا والولايات المتحدة. ولكن القضاة رفضوا طلب الموساد، ما يعتبر نكسة لإسرائيل، إلا أن مجرد استعمال الإجراء يعتبر برهاناً على انه كان في الموساد حقاً.
ولم تكن محاولة منع نشر الاعتقال السري ليوسف عميت، العامل في وحدة استخدام العملاء «504»، بسبب تجسس لمصلحة الولايات المتحدة، لم تكن أفضل لأن هذه المحاولة لم تُفضِ إلا الى
من الاهتمام في القضية.
ويكشف بيرغمان أن المؤسسة الأمنية حاولت في العام 2001 أن تمنع «يديعوت احرونوت» من نشر أجزاء متطابقة بين قضية منبار (المتهم ببيع مواد كيميائية إلى إيران) وقضية رون أراد. وأثار مجرد وصول رئيس الموساد أفرايم هليفي إلى المحكمة اللوائية في تل ابيب ومنع نشر الأعداد الصحافية، موجة إشاعات، وجعل المعلومات التي أراد اخفاءها (وهي موت اثنين من عملاء الموساد في فيينا في العام 1992) تطفو على السطح.
ويقول إنه في آذار العام 2001 اختفى العميد اسحق يعقوب (ياتسا) من فوق الأرض. فقد جاء لزيارة اسرائيل وكان يفترض ان يخرج لاستجمام في تركيا لكنه لم يصل الى هناك. ويوضح أنه «اعتقل من قبل الشرطة والشاباك في مطار بن غوريون، وتم تحويله الى تحقيق شديد السرية مدة شهور طويلة، بسبب مقابلة صحافية أجراها معي، تطرق فيها أيضاً إلى المشروع الذري الاسرائيلي. وقد كان آنذاك هو السجين إكس». وضجت البلاد بالإشاعات التي كان بعضها آثماً متعمداً، وقالت إن يعقوب قد اعتقل بشبهة أنه جاسوس روسي.
وكما هي الحال في قضية بن زايغر وألون وبوروز، كانت محاولة الإبقاء على القضية سراً آنذاك محكومة بالفشل. فقد نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» أجزاء منها بشكل بارز، ما جذب الانتباه وحولها من جدل صغير في ما يجوز أو لا يجوز لمسؤولين سابقين نشره، إلى نقاش تعدى الحدود والمحيطات في الغموض النووي الإسرائيلي. وما زلنا لم نقل شيئاً في قضية عنات كام وتحقيقات صحيفة «هآرتس».
وبالعودة إلى زايغر، كتب الصحافي تريفور بورمان، الذي أجرى تحقيق قناة «ايه بي سي»، «أبلغتني مصادري أن الموساد والشاباك استنفرا» لمنع انتشار المعلومات. وأضاف «قال لهم مخبروهم إن وسائل الإعلام الإسرائيلية الكبرى ستطبق حتماً، رغماً عنها التعتيم الكامل المفروض على القضية، والمهمة الرئيسية للمراقبين تقضي بسحب النصوص المنشورة في المدونات، والتي تتضمن رابطاً إلى خبرنا». ونقل بورمان تفاصيل عن اجتماع رؤساء التحرير ورئيس الموساد تامير باردو. وأوضح أن الأخير «حث وسائل الإعلام على عدم نقل المعلومات». وقال له احد الحاضرين إنه «يعتبر الإسرائيليين أغبياء».