سارع كثيرون من سياسيين ومراقبين على ضفتي الخط الأخضر في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، الى الاستنتاج والتحذير من التصعيد الذي تشهده خطوط التماس على جبهة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي خلال الأيام القليلة الماضية.
الاستنتاج، كما صاغه صناع قرار ومحللون إسرائيليون وفلسطينيون، ملخصه أن انتفاضة فلسطينية ثالثة تجمعت نذرها، وبدت تلوح في الأفق القريب. ويحذر هؤلاء من مغبة أن تصير واقعاً فعلياً يخرج عن الضبط والسيطرة، ويدفع نحو الدخول- من جديد- في أتون دوامة العنف المفتوح على أفق الهاوية.
أسباب مباشرة
في رصد أسباب لاحتمال اندلاع انتفاضة ثالثة نجد أن ثمة مبررات تكفي لاندلاع عشرات الانتفاضات في وجه طغيان الاحتلال الإسرائيلي الذي تخطى كل الحدود، وناء الفلسطينيون بأثقاله وجرائمه.
وكانت آخر هذه الجرائم استشهاد الأسير عرفات جرادات في أقبية التعذيب في سجن مجدو الإسرائيلي، في وقت تتواصل فيه محنة الأسرى المضربين عن الطعام منذ أكثر من 200 يوم. ومثل استشهاد جرادات «الشرارة» التي أشعلت المواجهات الأخيرة، واشعلت معها خيالا محبطا للكثير من الفلسطينيين الذين فقدوا الأمل في الخروج من نفق المأزق الراهن، الذي سد في وجوههم كل سبل النجاة، مما قد يدفعهم الى خيار «شمشوني» بالغ الخطورة ويقوم على مبدأ «عليَّ وعلى أعدائي يا رب»!
سلاح المستوطنات
لقد وقعت شرارة استشهاد جرادات وإضراب الأسرى على حقول فلسطينية سياسية واقتصادية جافة وجاهزة للاشتعال.
ففي حقل السياسة، بلغ خيار المفاوضات طريقه المسدود، ولم يعد هناك من يساوره الشك- حتى أكثر الفلسطينيين اعتدالاً من طينة الرئيس محمود عباس نفسه- بأن إسرائيل غير مستعدة- حتى إشعار آخر- للوفاء بأي استحقاق من استحقاقات عملية السلام. وأن جُلَّ ما عرضته الأخيرة، وما هي مستعدة لعرضه، ليس أقل من الدعوة الى الاستسلام ورفع الراية البيضاء والإذعان لمطالبها من قبيل الاعتراف بيهودية الدولة، والتسليم بالقدس عاصمتها الموحدة، والسيطرة الأمنية على الأغوار، والاحتفاظ بالكتل الاستيطانية، وشطب اللاجئين من قائمة جدول أعمال المفاوضات، وعدم العودة لحدود الرابع من يونيو عام 67 وما تبقى من فتات خذوه وسموه امبراطورية!
ما سلف ليس مجرد أقوال، إنها وقائع تقام وتكرس على الأرض. فمنذ اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كدولة «مراقب غير عضو» قبل ثلاثة شهور، أعطت الحكومة الإسرائيلية موافقتها على إقامة أكثر من 11 ألف وحدة استيطانية في القدس المحتلة والضفة الغربية، وأخطرها الاستيطان في منطقة (إي 1) التي ستقسم الضفة الغربية الى قسمين وتنهي أي تواصل جغرافي بينهما.
.. وسلاح التجويع
واقتصادياً، عمدت إسرائيل الى تجويع الفلسطينيين، منذ الاعتراف الأممي بفلسطين الى السطو على عائدات الضرائب التي تجبى على البضائع المستوردة للأراضي الفلسطينية والتي تقدر بنحو 150 مليون دولار شهرياً، وتسدد فاتورة رواتب موظفي السلطة في الضفة والقطاع.
ثمة سبب ثالث، بشهادة حتى بعض الأصوات الإسرائيلية، وهو أن إطلاق سلطات الاحتلال يد المستوطنين دون حسيب أو رقيب للبطش بالفلسطينيين خاصة في القرى حيث تقوم مجموعات ما يسمى حملة «دفع الثمن» بإحراق الأشجار واقتلاعها، والاعتداء على الممتلكات وقطع الطرق والتنكيل بالأهالي، بالإضافة الى العنف المنظم الذي تمارسه سلطة الاحتلال أحالت حياة الناس الى جحيم.
وفي ختام الأسباب المباشرة التي من شأنها أن تفجر انتفاضة جديدة، ما أصاب الفلسطينيين من يأس جراء الانقسام الفلسطيني، وإخفاق جميع المساعي والاتفاقات بوضع حد له.
موانع إقليمية ودولية
غير أن توافر الأسباب الموضوعية لاندلاع انتفاضة ثالثة رغم وجاهتها، مغايرة تماماً لأسباب نجاحها.
فالاحتفاء بنذر الانتفاضة يجب أن لا يعمي الأبصار عن وقائع أخرى تجري بجوار فلسطين ومن حولها موسومة بالفوضى والعنف، وهي في الغالب الأعم لا تزكي نجاح اندلاع انتفاضة ثالثة. ومن بين هذه الأسباب أن عرب ما بعد ثورات الربيع العربي- أنظمة ومعارضة- غارقون في فوضاهم وهمومهم، كما تشير الوقائع في مصر وتونس وليبيا، فيما الوضع في سوريا يواصل تأزمه ويلقي بظلاله الحالكة على المشرق العربي برمته، وهزاته الارتدادية يمكن رؤيتها بالعين المجردة في العراق ولبنان، وخطوط التماس المذهبية بين السنة والشيعة تزداد سخونة.
الوضع المتفجر في سوريا، وبموازاته أزمة الملف النووي الإيراني، يتصدران جدول أعمال إسرائيل ومن خلفها ومعها الإدارة الأميركية وأوروبا وروسيا والصين. أما الموضوع الفلسطيني فهو في أسفل سلم الاهتمامات العربية والدولية. وانتفاضة ثالثة، كما يرى الذين يفركون أيديهم بانتظار انفجارها، قد تعيد لهم بعض الاهتمام، لكنهم يتغافلون عن بديهية-وللأسباب ذاتها-أنها مثل هذه الانتفاضة ستكون سبباً لإطلاق يد إسرائيل واستفرادها بالفلسطينيين وانتفاضتهم الثالثة.
لذا، يجدر بالذين سارعوا الى إطلاق الزغاريد احتفاءً باندلاع شرارة انتفاضة جديدة أن يتريثوا قليلاً، إذ ثمة ما يشير الى أن حسابات الحقل الفلسطيني، وإن كان جافاً وقابلاً للاشتعال، لا تطابق حسابات بيدر كل ما يجاوره في دنيا العرب وعواصم القرار الدولي.
العنف من مصلحة إسرائيل
فاستعجال اندلاع انتفاضة ثالثة محفوف بالمخاطر، لأن الانتفاضات تجري في الشوارع والساحات وليس في المختبرات أو من دون استئذان أحد. والقول بوصفة تشكيل قيادة مشتركة عليا لانتفاضة ثالثة لا يكفي لتجنيبها خطر الانزلاق الى هاوية العنف والفوضى. فمصير الانتفاضة الثانية ونتائجها ما زالت ماثلة حتى يوم الناس هذا. وليس الانقلاب في غزة والانقسام سوى عينة من هذه النتائج.
وثمة ما يؤكد ذلك، كما قال الرئيس عباس محقاً، وهو «إن إسرائيل تتحرق الى جر الفلسطينيين الى مربع العنف والفوضى»، بالإضافة الى غياب أي ضمانات لبقاء هذه الانتفاضة تحت السيطرة وقيادتها بأساليب سلمية وشعبية، وفي الوجهة السياسية الصحيحة.
بيد أن هذه المخاوف، على شرعيتها، لا ينبغي أن تُفهم بأنها دعوة الى أن يتنازل الفلسطينيون عن حقهم المشروع في مقاومة الاحتلال. فتجربة مقاومة جدار الفصل في بلعين، واقامة القرى الافتراضية (باب الشمس، وباب الكرامة) قرب القدس وجنين قابلة للتعميم في كل الأراضي الفلسطينية المهددة بالاستيطان، والاعتراف الدولي بفلسطين فتح افاقاً جديدة لمطاردة إسرائيل وسفاحيها في المحافل والمحاكم الدولية. وهذه وتلك وغيرها من أشكال الكفاح قابلة للولادة من رحم المواجهة الشعبية والسلمية ضد الاحتلال ليست قليلة الفعل والتأثير بانتظار سانحة أخرى قد تتيح الذهاب الى انتفاضة ليست سلمية فقط، بل ومسلحة أيضاً إذا استطاع الفلسطينيون الى ذلك سبيلا.