ديفيد هيرست
هل تندلع انتفاضة جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة أم لا؟ الإسرائيليون يطرحون هذا السؤال على أنفسهم منذ عدة أشهر، ولكن المسألة شهدت تحولاً ينذر بالأسوأ إثر مقتل الأسير الفلسطيني عرفات جرادات تحت التعذيب في أحد السجون الإسرائيلية قبل أسبوعين، فقد سبق وأدت حوادث مشابهة من قبل إلى اندلاع الانتفاضتين الفلسطينيتين: الأولى والثانية.
بالطبع، لم يتمكن الإسرائيليون من الإجابة عن السؤال، ويمكن فهم حالة عدم اليقين التي يمرون بها، فمثل هذه الانتفاضات الفلسطينية كانت دائماً تندلع فجأة وبشكل عفوي، ومن دون أن يرصدها أحد. لقد كانت تلك الانتفاضات عبارة عن انفجارات شعبية حقيقية من دون أن يكون هناك من يخطط لها، أو يحرض عليها، أو حتى يعلم بها، بمن فيهم القادة الفلسطينيون. بل ربما حاول هؤلاء القادة إجهاضها لو علموا بها مسبقاً.
وفي الواقع، كان فشل، أو عجز هؤلاء القادة من أبرز أسباب ثورة الشعب في محاولة لتصحيح الأوضاع التي لا تحتمل، بطريقتهم الخاصة، بعد أن فشل قادتهم في تصحيحها. وكان ذلك هو منطق الثورات الفلسطينية منذ الأيام الأولى للمأساة الفلسطينية.
عندما ينفجر الغضب الشعبي
في عام 1922، اندلعت أول انتفاضة شعبية كبرى احتجاجاً على الموجة الأولى من الهجرات الصهيونية إلى فلسطين، ووقعت بعد أن فشلت القيادات الفلسطينية، من خلال مفاوضاتها مع سلطات الانتداب البريطانية في منع أو تقليص هذه الهجرات.
وفي عام 1936، كانت الثورة الشعبية الكبرى التي أطلقها الشيخ عز الدين القسام، في جوهرها، هبة شعبية عفوية، وخاصة من مجتمع الفلاحين الذين شعروا بالاحباط لعجز قادتهم، ولا سيما الوجهاء من أثرياء المدن، عن إجبار بريطانيا على وقف الصهاينة عن سلب المواطنين الفلسطينيين أراضيهم وممتلكاتهم.
وأما الانتفاضة الأولى التي اندلعت في ديسمبر 1986 فوقعت نتيجة قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس أربعة عمال فلسطينيين كانوا يصطفون في إسرائيل في طريق عودتهم إلى غزة. ربما كان ذلك الحادث عرضياً، لكنه عمل على إخراج كل مخزون الغضب لدى هذا الشعب الخاضع للاحتلال والقمع. ولم تكن القيادة الفلسطينية على علم باندلاع هذه الانتفاضة، حتى أن ياسر عرفات فوجئ بها في مقر إقامته في تونس آنذاك، واستغرق الأمر منه أياماً حتى يفهم ماذا كان يحدث. ومن ثم أثنى على هذه الثورة السلمية، التي صارت تعرف بـ «انتفاضة الحجارة»، وأدت إلى مقتل 1200 فلسطيني و164 إسرائيلياً. ومن ثم استغل عرفات هذه الانتفاضة كقوة دبلوماسية منحتها له بشكل اعجازي وغير متوقع، في مفاوضات السلام السرية التي توجت باتفاقات أوسلو عام 1993.
السلاح لتعويض فشل الدبلوماسية
الانتفاضة الثانية كانت أيضا مفاجئة وعفوية حين اندلعت في سبتمبر 2000، على الرغم من أنها كانت متوقعة أكثر من سابقتها. وفي الواقع، كُشف لاحقاً أن الجنرال آرييل شارون لعب دوراً متعمداً في التمهيد لاندلاعها. فالزيارة التي قام بها للمسجد الأقصى كانت عملاً استفزازياً بكل بساطة، وقابله المواطنون الفلسطينيون بالحجارة، فقام القناصة الإسرائيليون، الذين كانوا يتخذون مواقع لهم في المباني العالية، باطلاق النار وقتل رماة الحجارة، مما أدى إلى سقوط 47 فلسطينياً خلال ثلاثة أيام. ولأن المجتمع الفلسطيني كان يعج بالسلاح، فقد كانت الانتفاضة الثانية أكثر عنفاً من الأولى، مما أدى إلى مقتل أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني وحوالي ألف إسرائيلي، على مدى خمس سنوات. ولكن من الناحية السياسية، انطلقت الانتفاضة الثانية من رحم تراكم الاحباطات ذاتها التي كان يشعر بها الشعب الفلسطيني لدى اندلاع الانتفاضة الأولى، وتحديداً، كنتيجة مباشرة لفشل مؤتمر كامب ديفيد الذي استضافه الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بحضور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي (آنذاك) أيهود باراك، فقد تلاشت آمال الفلسطينيين (حينها) بنهاية قريبة للاحتلال.
وربما لعب عرفات دوراً ما في تشجيع اندلاع هذه الانتفاضة، كنتاج لفشل دبلوماسيته، وهو فعل ذلك في سرّية تامة. وحين انطلقت الانتفاضة استغلها الزعيم الراحل كـ «أداة ضغط» لتحسين موقعه التفاوضي... ولكنه لم يُحسن هذا الاستغلال.
المعاناة لم تتوقف
ويكابد الفلسطينيون محنة عامة مشابهة هذه الأيام. فبعد 13 عاماً أخرى من الاحتلال الإسرائيلي والقمع، فان الوضع داخل الاراضي الفلسطينية اليوم أكثر إحباطاً مما كان عليه أيام الانتفاضتين الأولى والثانية. «وأمام الحالة هذه، فان السؤال الذي يجب على الإسرائيليين طرحه الآن ليس ما إذا كانت ستندلع انتفاضة ثالثة أم لا؟ بل لماذا لم تندلع مثل هذه الانتفاضة حتى الآن؟»، بحسب الصحافية الإسرائيلية في هآرتس، أميرة هاس التي تغطي قضايا الضفة الغربية بشكل أقرب ما يكون إلى التعاطف.
فكل الدوافع الرئيسية لإندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة حاضرة، وأهمها الإدراك العام بأن القيادة الرسمية الممثلة بمحمود عباس فشلت – مرة أخرى – في الاضطلاع بالمهمة الموكلة اليها، ألا وهي إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا هو الهدف الأعلى للقضية الوطنية الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو. بالإضافة إلى ذلك، لم يقدم عباس والسلطة الوطنية أسباباً مقنعة لشعبهم، بأن للاستراتيجية التي يعتمدونها أي فرصة للنجاح، وهي الاستراتيجية التي تعتمد، بشكل كلي وحصري، على الدبلوماسية والمفاوضات وعلى حُسن نوايا المجتمع الدولي، لاسيما الولايات المتحدة، حتى تؤتي بأي ثمار.
الدبلوماسية المقامرة
وباعتماده النهج الدبلوماسي، فان عباس جعل – وبشكل تلقائي – العنف، وبأي شكل كان، خروجاً على القانون، الأمر الذي يشكل إدانة لـ «المقاومة»، ناهيك عن «الكفاح المسلح» الذي كانت تتبناه حركة فتح ذات يوم. هذا الخيار جعل عباس يبدو بعيدا عن تطلعات الشعب الفلسطيني بشكل خطر ينطوي على تنكر للأهداف الوطنية. لقد جعل عباس من قوات الأمن الفلسطينية امتداداً لأجهزة الأمن الإسرائيلية: فهو لم يستخدمهم لكبح العنف ضد إسرائيل، بل استخدمهم لقمع أبناء شعبه أيضاً، وقامت أجهزة الأمن الفلسطينية باعتقال وإساءة معاملة السجناء السياسيين والصحافيين والمدونين الذين تعرضوا له بالنقد.
وهذه السياسة القائمة على المفاوضات فقط، ونبذ المقاومة، كانت أشبه بـ «المقامرة»، أي أن التعاون الأمني الفلسطيني - الإسرائيلي سيجعل إسرائيل تشعر بالأمان، وبالتالي، غياب المبرر الرئيسي لإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية، والسماح بإقامة الدولة الفلسطينية.
ولكن هذه المقامرة فشلت بكل بساطة. والمفارقة أن الفشل كان نتيجة نجاح جهود عباس. فنتيجة للتعاون الذي قدمه نعمت إسرائيل بأربع سنوات من الهدوء والسلام، لدرجة أن إسرائيليا واحدا لم يُقتل في الضفة الغربية طوال عام 2012 بأكمله، وذلك للمرة الأولى منذ اتفاق أوسلو.
دائرة شريرة
ولكن، ولسوء حظ عباس، جاءت ردة فعل الإسرائيليين وفق طريقتهم المعتادة. فحين يسبب لهم الفلسطينيون متاعب أو ألما حقيقيا من خلال الإرهاب أو العمليات الانتحارية أو أشكال أخرى أقل عنفا، فان ذلك يجعلهم- على الأقل- «يقظين» بأن هناك عدوا يتمثل في شعب كامل يتعرض للظلم ولن يستكين إلا بتحقيق دولة مستقلة له. أما حين لا يسبب الفلسطينيون أي متاعب للإسرائيليين، حتى لو كانت متواضعة نسبيا، فلن ينظر إليهم أحد.
يقول ماثي ستينبرغ، المستشار السابق لشؤون الأمن الإسرائيلي، إن «الوسط الإسرائيلي محشور في دائرة شريرة. فهذه الدائرة تجادل أنه ليس بوسعها صنع السلام (مع الفلسطينيين) طالما أن هناك عنفا. وحين يختفي العنف، فإنها لا تعود ترى مبررا لصنع هذا السلام».
كما أن استطلاعات الرأي أظهرت أن معظم الإسرائيليين الآن، يعتقدون أن من غير الممكن التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. فطالما يلتزم الفلسطينيون، تحت إدارة عباس، الهدوء، فلماذا نقوم بمجرد المحاولة لصنع السلام؟!
وبالطبع، لم يحاول بنيامين نتانياهو صنع هذا السلام، ولم يشعر باي حاجة إلى ذلك. فهو معروف بأنه من الصقور، ويخضع لضغوط أقل من التيار الرئيسي في الرأي العام الإسرائيلي، الذي كان يحثه على مواقف أكثر تصالحية تجاه الفلسطينيين مقارنة بالرأي العام الجديد الذي يشهد صعودا لليمين المتطرف الذي يرفض بشكل مطلق فكرة الدولة الفلسطينية.
ما العمل؟
وهذا هو السبب وراء عودة مشاعر الغضب والسخط في أوساط الشعب الفلسطيني، وهو العنف الذي قد يؤدي عند أي حادث وفي أي لحظة إلى انفجار شعبي، وقد يكون مقتل جرادات الشرارة التي ستشعل الفتيل. ولكن هذه الأسباب تعززها عوامل أخرى كثيرة، مثل المشاهدات اليومية لما يفعله الإسرائيليون على الأرض، خصوصا لجهة توسيع المستوطنات، وتهويد القدس، وحوادث القتل التي لا تتوقف، سواء على أيدي الجنود أو المستوطنين، وعمليات هدم المنازل، ومصادرة الأراضي لأسباب «أمنية»، والاهانات التي يتعرض لها الفلسطينيون عند نقاط التفتيش الإسرائيلية، وقيام المستوطنين بإحراق المزارع وقطع الأشجار وتدنيس الأماكن الدينية.
فما العمل إذن؟ الفلسطينيون، بمختلف مشاربهم، يعتقدون الآن، أن الوقت قد حان للتوقف عن مهادنة إسرائيل، وبدلا من ذلك، مجابهتها والعودة إلى شكل ما من أشكال «المقاومة» التي تجعلها تشعر بألم حقيقي، وبأن هناك ثمنا تدفعه جراء استمرار الاحتلال. بل إن البعض، من أمثال مروان البرغوثي، يقول إن المقاومة يجب أن تكون مسلحة كما كانت الانتفاضة الثانية. وقد ظهر عضو مقنّع من كتائب شهداء الأقصى في جنازة جرادات مؤخرا ليقول إن «السيادة والاستقلال يولدان من رحم المقاومة وليس على طاولات المفاوضات العقيمة.. نحن بحاجة إلى بدء المعركة على الأرض بسواعد الفلسطينيين وتصميمهم وكفاحهم ومقاومتهم وتضحياتهم». وهدّد بالانتقام لمقتل جرادات، مُلوِّحا بأن ذلك سيشعل «الانتفاضة الثالثة».
مقاومة سلمية
ويفضل آخرون وقد يكونون الأغلبية «مقاومة» سلمية أشبه بالانتفاضة الأولى، بحيث لا يتجاوز العنف فيها عمليات رشق الجنود الإسرائيليين بالحجارة وتنظيم التظاهرات وعمليات المقاطعة وإقامة الخيم الاحتجاجية على الأراضي التي يخطط الإسرائيليون لمصادتها.
ولكن على الأرجح أن الانتفاضة ما أن تبدأ، بصرف النظر عن مدى سلميتها، فسرعان ما تتم عسكرتها من هذا الطرف أو ذاك. وفي الواقع، فإنه بالنظر إلى حجم الاحباط الذي يشعر به الفلسطينيون وبالنظر إلى مدى التطرف الذي وصل إليه المستوطنون في الجانب الإسرائيلي، فإن الانتفاضة الثالثة ستكون أوسع نطاقا وأكثر حدة من الانتفاضتين السابقتين.
وعلى الأرجح ستكون هذه الانتفاضة أكثر تعقيدا وأكثر إيلاما على الفلسطينيين على الصعيد العاطفي، لأن الانتفاضة هذه المرة لن تكون ضد الإسرائيليين فقط، بل ضد القيادة الفلسطينية أيضا، وكما لم يحدث من قبل.
ولهذا يبدو الرئيس عباس ومسؤولو السلطة خائفين من الانتفاضة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، وإلا فلماذا يقول عباس لأبناء شعبه إن من واجبهم عدم إطلاق مثل هذه الانتفاضة؟ فهو يعتقد أن الإسرائيليين يسعون لتفجير هذه الانتفاضة. فقد نقل عن اللواء عدنان الضميري، الناطق باسم قوات الأمن الفلسطينية في الضفة، قوله إن الانتفاضة سوف تساعد الإسرائيليين على الخروج من أزمتهم السياسية وتحويل الانظار عن موقفهم اللاأخلاقي أمام الشرعية الدولية. بمعنى آخر، مساعدتهم في التهرب من التزامهم باستئناف «عملية السلام» التي مازال عباس يتشبث بها كسبيل الخلاص الوحيد للشعب الفلسطيني، بالرغم من كل ما يحدث.
قيادات فاسدة
والانتفاضة الفلسطينية لن تهدد السلطة الفلسطينية فحسب، بل خصمها اللدود، حركة حماس أيضا. فبسبب النزعة العسكرية للحركة والحروب الصغيرة التي خاضتها ضد إسرائيل على مدى السنوات القليلة الماضية، يُفترض أن تكون أكثر ميلا للانتفاضة من عباس، ولكن التقارير تشيرإلى أن الانتفاضة إذا اندلعت، فإن حماس تفضلها أن تكون في الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة عباس، بعيدا عنها. وذلك لأنه يبدو أن البقاء في السلطة، بالنسبة لطرفي الانقسام الفلسطيني الكبيرين، يتقدم على أي شيء آخر في سلم أولوياتهما. وكلاهما يدرك أن اي تحرك شعبي واسع وصعوبة السيطرة عليه سيمثل الخطوة الاولى في طريق الاطاحة بهما، وهذا يعني تمكين جيل جديد من القادة على حساب القيادات القديمة الفاسدة والطائشة التي لا تحظى بشعبية كبيرة في أوساط الفلسطينيين.
وربما تكون عدم رغبة فتح وحماس في اندلاع انتفاضة جديدة، هي السبب في عدم اندلاع مثل هذه الانتفاضة حتى الآن، وفيها (عدم الرغبة) إجابة عن تساؤل أميرة هاس في هآرتس. ولكن اذا اندلعت الانتفاضة بشكل مفاجئ وعفوي ودون تخطيط مُسبق، كما حدث في الانتفاضتين الاولى والثانية، فلن يشّكل ذلك مفاجأة لأحد، وستكون الانتفاضة التي تنبأ بها كثيرون.