رونين بيرغمان- يديعوت أحرونوت
في نهاية أيار 1993 دُعي عدد من كبار مسؤولي الاستخبارات الاسرائيليين الى حفل مرتجل في واحدة من غرف مقر "الموساد". لم يعلم الجميع بالضبط ما الذي يدور الحديث عنه، الى أن كح شبتاي شبيط رئيس "الموساد" في تلك الفترة واتجهت عيون الحاضرين اليه. قال شبيط: "لا ننجح في كل يوم بإدخال جهاز مركب الى أعماق قلب هدف مركزي وبخاصة المكتب رقم 2 من هذا الهدف. كل الاحترام لكم".
ربت الحضور بعضهم على أكتاف بعض. فبفضل العملية التي تحدث عنها شبيط أخذت تتدفق منذ بضع ساعات الى اسرائيل معلومات استخبارية تعتمد على اجهزة تنصت مُحكمة أُخفيت في غرفة من كان نائب عرفات، محمود عباس – أبو مازن – الذي هو رئيس السلطة الفلسطينية اليوم.
كانت تلك فترة حرجة: فقبل ثلاثة اشهر من اتفاق اوسلو – حينما كانت الاتصالات لا تزال سرا خفيا ولم يعرفوا بها حتى في "الموساد" الى ان استمعوا للتسجيلات – ضج مكتب نائب الرئيس في تونس بالأحاديث والمباحثات. وجعل غرس وسائل تنصت في مكتب أبو مازن في واقع أجزاء كبيرة من نشاط "م.ت.ف" مكشوفة لإسرائيل ومنحها ايضا معلومات ثمينة عن العلاقات المشحونة في قيادة المنظمة العليا ومنها العلاقات بين أبو مازن وياسر عرفات.
كانت عملية غرس وسائل تنصت واحدة من أكثرها أهمية وسرية في تلك الايام. وقد نجحوا في "تسوميت" – وهو جناح "الموساد" المسؤول عن استعمال العملاء – نجحوا في تجنيد رجل مفتاح من قيادة المنظمة. وهذا العميل الذي حظي في "الموساد" بالاسم الشيفري "قطعة الذهب"، نجح في غرس جهازين في مكتب أبو مازن أحدهما في أريكة المديرين لنائب الرئيس؛ والثاني في مصباح المائدة أمامه. ومنذ اللحظة التي رُكبا فيها عمل كل شيء كما يجب وتدفقت المعلومات الى اسرائيل التي كانت تُعادل وزنها ذهبا كما يتذكر رجل ميدان الارهاب من شعبة الاستخبارات العسكرية الذي حصل على المواد. بيد أنه بعد ذلك بثلاثة اسابيع ونصف انتقضت عملية قطعة الذهب. فتم الكشف في البداية عن اجهزة التنصت وأُبطل عملها وانقطع توالي المعلومات الاستخبارية، وكُشف بعد ذلك عن العميل الفلسطيني الذي جُند ونجا من الاعدام بفضل ضغط ثقيل استعملته اسرائيل فقط.
على الرغم من مرور عقدين منذ ذلك الحين لا تزال تدور في الجماعة الاستخبارية نظريات مؤامرة مختلفة وعجيبة حول الكشف عن عملية قطعة الذهب. وقد صدر عن الفلسطينيين من جهتهم تفسير لهذا الكشف – فحص عن اعمال تنصت استدعوه كشف عن الاجهزة – لكن لا أحد في الحقيقة يُصدق هذه الرواية. كان هناك من أعلنوا ان تسريب المعلومات جاء من فرنسا؛ وزعم آخرون ان التسريب كان من جهة اخرى؛ وهناك من يقولون ان اسرائيل خاصة هي التي سربت المعلومات.
يخط هذا القسم لأول مرة مراحل العملية الحساسة ابتداء بتجنيد العميل الفلسطيني ومرورا بغرس وسائل التنصت ثم الى الكشف عن الاجهزة وتبادل الاتهامات الذي استمر جزء منه الى اليوم.
يُفتح ملف قطعة الذهب بعد عشرين سنة.
1- الهدف
في نيسان 1988 كان كبار مسؤولي "م.ت.ف" في ذعر. فقد تغلغلت الصدمة بعقب اغتيال أبو جهاد، نائب عرفات في داخل بيته في تونس عميقا الى المنظمة. ومنذ ان غادر قادة "م.ت.ف" لبنان في 1982 على عجل واستقروا في تونس أخذ شعورهم بالأمن يقوى. قصف سلاح الجو في الحقيقة مقرات القيادة في تونس (عملية "رِجل الخشب"، في تشرين الاول 1985)، لكن قادة المنظمة اعتقدوا أنهم محميون فسكنوا فيلات فخمة في أطراف العاصمة تونس في قلب تجمع سكني مدني، وعملوا من المكاتب الفخمة عميقا في مناطق الاعمال المكتظة في المدينة. وكانوا على يقين من ان طائرات سلاح الجو لن تصل الى هناك.
وكانوا على حق. لكن التي جاءت هي دورية هيئة القيادة العامة التي نجحت في عملية اغتيال مُحكمة مدهشة بادارة "الموساد" في اغتيال أبو جهاد في داخل غرفة عمله في بيته. وأدركوا في "فتح" ان عملية الاغتيال اعتمدت على معلومات استخبارية دقيقة بلغت الى اسرائيل فانشأوا عددا من لجان الفحص والتحقيق التي لم تكشف عن الكثير في الحقيقة لكنها أوصت بتشديد وسائل الحراسة حول المقرات في تونس.
كانت النتيجة أن صعب على "الموساد" الاسرائيلي في مطلع تسعينيات القرن الماضي ان يجمع معلومات استخبارية وان يُجند عملاء من قيادة "م.ت.ف" العليا. وكان الحل محاولة تجنيد أناس المنظمة الخارجين الى الخارج ولاسيما اولئك الذين يتجولون في دول مريحة نسبيا للعمل. وكانت فرنسا أسهل الدول من هذه الناحية، فقد مر أكثر أناس "م.ت.ف" الذين خرجوا الى الخارج من تونس بها عن طريق البحر الى مرسيليا أو عن طريق الجو الى باريس. وقد فضل أكثرهم ان يستأجروا هناك غرفا في الفندق الباريسي الفخم "ميريديان مونبرانس". وبالمناسبة كانت مجموعة اخرى في تلك الفترة أحبت جدا هذا الفندق الفخم وهي من طياري "إل عال" وأفرقائها. فحدث احيانا ان كان كبار مسؤولي "م.ت.ف" يتناولون الطعام في غرفة الطعام في طرف وفي الطرف الثاني كان طياروا "إل عال" وكثير منهم طيارو عمليات في سلاح الجو الاسرائيلي.
في شباط 1990 ألفوا في القسم المسؤول عن الارهاب في "أمان" قائمة أهداف موصى بها ليُجندوا عملاء ونقلوها الى رئيس قسم "تسوميت" في ذلك الوقت، آفي دغان. وكان على رأس القائمة اسم كان مجهولا تماما سوى عند بعض أناس الاستخبارات وهو عدنان ياسين الذي كان في الثالثة والخمسين آنذاك.
كان عمل ياسين الرسمي ضابط الأمن لقيادات "م.ت.ف" ونائب المسؤول الكبير في "فتح" حكم بلعاوي. وقد اعتبر بلعاوي واحدا من مفكري "م.ت.ف" وكان ثوريا مثاليا ومن صاغة النظرية السياسية للمنظمة. فكان احتمال تجنيده يؤول الى الصفر بسبب ذلك. لكن نائبه ياسين كان نوعا من وسيط كبير. وبخلاف رب عمله الذي اعتاد ان يُتبل كلامه بمقتبسات من كلام تشي جيفارا وكارل ماركس، اهتم ياسين في الأساس بالرفاهية الشخصية لكبار المسؤولين حوله وبنفسه ايضا على الطريق. فقد كان منسق رحلات وعُطل، ومنظم علاجات طبية نوعية حينما يُحتاج اليها، واهتم بأن يجلب الى تونس منتوجات فخمة. وهكذا برغم أن منزلته لم تكن رفيعة كان ياسين مُطلعا على الكثير جدا من المعلومات التي أثارت اهتمام اسرائيل.
كانت "م.ت.ف" في تلك الايام قد أصبحت منظمة سمينة كثيرة الأملاك وانتشر الفساد فيها. وكان ياسين جزءا من مجموعة كبيرة من مسؤولين كبار اعتادوا ان يستمتعوا بالحياة الطيبة في باريس على حساب الثورة الفلسطينية. وقد سُموا في "الموساد" سخرية "ميداور" (الجوالين) أو "ثوار الشانزليزيه"، فهم يأتون الى باريس يلقون فيها هذا أو ذاك وينفقون شيئا من المال على المشتريات ويحرقون بضعة ايام اخرى في بطالة ويعودون الى تونس.
واعتاد ياسين ان يأتي الى باريس في احيان متقاربة ليعتني بشؤون مختلفة، ومنذ منتصف 1989 كان يصاحب زوجته التي أُصيبت بالسرطان وتلقت علاجا كيميائيا هناك. وقد كان الاثنان يبيتان مثل أكثر كبار مسؤولي "م.ت.ف" في الفندق الفخم "ميريديان مونبرانس".
وكانت تلك فرصة ممتازة لمحاولة تجنيده. وأمر آفي دغان، رئيس قسم "تسوميت" ببدء العملية.
2- التجنيد أو نادي وجبة الإفطار
آذار 1990. في غرفة طعام المريديان كان يتناول عدد من أناس "فتح" طعامهم. ونزل هدف التجنيد ايضا، عدنان ياسين، من غرفته وانضم اليهم وكان يجلس على المائدة المجاورة رجل ذو سحنة شرقية أنيق اللباس. وقد وُضع على مائدته في عدم ترتيب مفتاح غرفته في الفندق (أي أنه كان ايضا ضيفا في هذا المكان) وصحيفة أوراقها خضراء.
لم تكن هذه الاشياء موضوعة هناك بلا سبب، كانت تلك الخطوة الاولى الحذرة جدا مما يسمى في قسم "تسوميت" "انشاء صلة". وهي المرحلة الأشد حساسية حيث يتم قياس قدرة الرجل الاول لانشاء الصلة بهدف التجنيد.
القانون الاول في هذه المرحلة هو محاولة جعل الطرف الثاني يخطو الخطوة ويبادر الى الصلة أو على الأقل ألا تبدو أنك تحاول كثيرا وألا تعمل في عنف يثير الريبة. فعلى سبيل المثال يشك الشخص فيمن يأتي الى محطة الحافلات بعده لكنه أقل شكا فيمن يكون هناك قبله. والشخص الذي يدخل المصعد ويعدو شخص آخر وراءه وينزل في نفس الطابق ويسير خلفه يثير الريبة. لكنه اذا كان في المكان أولا فإن الريبة تكون أقل. والحديث عما لا يحصى من التنويعات اللطيفة التي هدفها ان تدع الوضع يجري على نحو طبيعي. "في حالات نادرة فقط"، يقول مصدر خبير بهذا الامر، "تستطيع ان تلقى شخصا ما فاسدا بقدر كاف اذا أعطيته حقيبة مال فإن ذلك يُدبر الامور. أما فيما عدا ذلك فالحديث عن فن حقيقي وصبر كبير يرمي الى ان تُشعر الآخر بأن كل شيء قد حدث بمبادرة منه".
في ذلك الصباح في الميريديان بدا رجل التجنيد في غرفة الطعام عربيا. وكان الهدف من وضع مفتاح الغرفة على المائدة إحداث شعور بالمعرفة. والصحيفة ذات الأوراق الخضراء معروفة لجميع قراء العربية في الخارج فهي صحيفة "الشرق الاوسط" وهي صحيفة تصدر في لندن وتعتبر صادقة ومعتدلة نسبيا. وتوجه أحد اعضاء المجموعة الذين جلس ياسين معهم لتناول الافطار – لا ياسين نفسه – الى رجل التجنيد وسأل سؤالا ما عن تقرير من التقارير الصحافية. وهش له رجل التجنيد ومد اليه الصحيفة ليقرأها، وهكذا نشأ حديث بين اعضاء المجموعة ورجل "الموساد" في حين كان رجل التجنيد يحرص على عدم الاهتمام البتة بياسين وعدم إثارة ريبته. ودعاه أحد اعضاء المجموعة الى الجلوس معهم لكن رجل التجنيد رفض بصورة مهذبة وغادر المكان كي لا يبدو شديد التحمس.
وفي صباح الغد لقي اعضاء المجموعة رجل التجنيد مرة اخرى الذي عرض نفسه بحسب تقرير لجنة تحقيق "م.ت.ف" الذي كتبه أمين الهندي إثر القضية، على أنه رجل اعمال مصري اسمه "حلمي". ودار الحديث سلسا بينهم مرة اخرى لكن رجل التجنيد حرص على ألا يُفرد اهتماما خاصا بياسين.
بعد ذلك بيومين جاء ياسين الى غرفة الطعام وحده. وبحث ياسين الذي يتحدث العربية فقط عن وجه مألوف وعن شخص ما يمكن الحديث معه. وفرح لأنه وجد "حلمي" يجلس هناك ويقرأ صحيفته الخضراء فسأله هل يمكن الانضمام اليه، ووافق حلمي بالطبع.
كان ذلك تجنيدا كاملا. فقد كان ياسين على يقين من انه الذي بادر الى الصلة بينهما، ولم يكن يشك في شيء، في ذلك الوقت على الأقل. وتحدث حلمي لياسين أنه يعمل في الاستيراد والتصدير لمنتوجات من فرنسا الى العالم العربي، وترك عند ياسين المتعطش الى العمل شعورا بأنه يكسب كثيرا جدا من المال.
وحدد الاثنان ان يلتقيا بعد ذلك للغداء في أحد مطاعم المنطقة. وانضم الى الوجبة أناس "موساد" آخرون راقبوا اللقاء من بعيد وهم يحاولون أخذ انطباع عن ياسين وعن شكل العلاقة بينه وبين رجل التجنيد. وكان انطباع أناس "الموساد" عن ياسين سلبيا جدا أو كان بلغة حلمي "عَرْس ابن عَرْس". ووصف ياسين بأنه انسان بسيط جدا غير مثقف عنيف فظ، يفكر بمفاهيم الاسود والابيض وهو يحرص في الأساس على كرامته وكرسيه. وكان باختصار تجنيدا كاملا من وجهة نظر "الموساد".
على حسب اجراءات العمل في "الموساد" كان عمل رجل التجنيد يوشك ان ينتهي في هذه المرحلة. فبعد "انشاء الصلة" يعرض بعلّة ما المجند على ضابط جمع معلومات وهو الرجل الذي يصبح عمله منذ الآن فصاعدا استعمال العميل. بيد أن رجل التجنيد في حالة ياسين كان يعتبر واحدا من أساطير "الموساد" وقد قام بأكثر العمل من اجل المنظمة في الحقيقة. وقال إن له صديقا هو ايضا رجل اعمال ومتصل بسفارة ايران في باريس ايضا. وكسب هو، أي حلمي، الكثير من المال بفضل هذا الصديق. ولم يعرض حلمي قط على ياسين لقاء هذا الصديق. بل كان ياسين هو الذي طلب اللقاء في المرة التالية التي رأى فيها "حلمي". وبعد رحلة "اقناع" حثيثة رضي "حلمي" في ظاهر الامر.
استمر هذا المسار اللطيف نحو شهر. وبعد أول لقاء مع ضابط جمع المعلومات تم تجنيد ياسين ليكون مصدرا. وألصق به واحد من رجال الاستخبارات – ويبدو انه مُحب للأساطير اليونانية – الاسم الشيفري "قطعة الذهب". ولم يكن أحد يعلم حتى ذلك الحين الى أي الاماكن سيقود قطعة الذهب "الموساد".
3- المصدر أو خمس رصاصات في باريس
بدأ عدنان ياسين يُمد "الموساد" بمعلومات عظيمة القيمة عما يحدث في حمام الشط وهو مقر قيادات "م.ت.ف" في تونس. وفي كل مرة كان يأتي فيها الى باريس كان يلتقي ضابط التجميع الذي "كان يتحدث العربية بلهجة لبنانية ثقيلة وسمى نفسه جورج" على حسب وثائق تحقيق "م.ت.ف". وأُجري على ياسين تحقيق أساسي في كل ما يعرفه مثل: اللقاءات والاسماء والمباني التنظيمية ونقل الوسائل القتالية، ومن يجلس في أي مكتب في تونس، وتوزيع صلاحيات أبو جهاد الميت، وعمليات تشجيع للانتفاضة في المناطق، واعداد لعمليات، وتجنيد قوة بشرية، ونمائم القيادة العليا، وانطباعاته عن الاتجاهات السياسية التي يسعى اليها عرفات. وكانت "معلومات قطعة الذهب" كما يتذكر الضابط من "أمان" "جيدة جدا فيما يتعلق بتفصيلات تكتيكية كان يستطيع ان يتلقاها في الأروقة. وكانت عنده معلومات كثيرة ايضا عما يحدث في تونس – أسماء ولقاءات ونمائم وغير ذلك، وكان أقل من ذلك جودة فيما يتعلق بالاتجاهات والاستراتيجية لأن هذه الموضوعات مرت أعلى من رأسه بكثير".
كان أحد الموضوعات الذي ساعد فيه ياسين كثيرا هو رحلات رجال "م.ت.ف" لأنه هو نفسه أدار وحجز عددا كبيرا من الرحلات والفنادق وتذاكر السفر. وطُلب الى ياسين ان يؤدي معلومات بواسطة شيفرات متفق عليها الى سلسلة صناديق صوتية فُتحت في دول مختلفة في اوروبا، عن رحلات عدد من الاشخاص كانوا يعتبرون أهدافا مفضلين عند "الموساد". وكان عدد منهم أهدافا للتعقب وجمع المعلومات الاستخبارية. وكان فريق آخر من الاشخاص الذين طُلب الى ياسين ان يجمع معلومات عنهم أهدافا للتصفية وهم جورج حبش ونايف حواتمة وأبو العباس وأبو فراس (من رجال أبو جهاد) والمشاركون في قتل الرياضيين في ميونيخ في 1972 ايضا وفي مقدمتهم محمد عودة (أبو داود)، وأمين الهندي وعاطف بسيسو.
وهذا الاسم الأخير، عاطف بسيسو، سيُدوي صداه كثيرا في قضية قطعة الذهب. فقد كان بسيسو مسؤولا كبيرا في منظمة ايلول الاسود وكان ذا علاقة بقتل الرياضيين في ميونيخ على حسب المعلومات في اسرائيل، بيد أن بسيسو خلافا لرفاقه الارهابيين اتخذ لنفسه عادات غربية مهذبة وبدأ عرفات يرسله الى لقاءات سرية مع منظمات استخبارات غربية. وقد التقت به الـ "بي.ان.دي" الالمانية والـ "دي.جي.اس.إي" الفرنسية ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية – جميعا برغم امتعاض اسرائيل.
وفي حزيران 1992 تمت تصفية بسيسو أمام فندق الميريديان. وتحدث شهود عيان عن ان من صفوه تعقبوه الى الغرفة وصاحبوه بعد ذلك حينما اتجه مع عدد من الاصدقاء لتناول العشاء في مطعم "هيبو بوتيموس" (فرس النهر) المجاور. وفي طريق عودته حينما خرج من السيارة عند مدخل الفندق تقدم منه رجلان يرتديان بدلتي جري سوداوين وأطلقا عليه خمس رصاصات وفرا في الظلام. وكان المسدس الذي استعملاه مزودا بكاتم صوت ووعاء يرمي الى جمع الرصاصات الفارغة من اجل جعل التحقيق الجنائي صعبا. ولا توجد منظمات كثيرة في العالم قادرة على تنفيذ تصفية نقية جدا كهذه.
أنكرت اسرائيل الرسمية كل صلة، لكن جميع المنظمات الاستخبارية الغربية التي كانت لها صلة ببسيسو غضبت على "الموساد"، فقد خسرت من وجهة نظرها كنزا مهما في داخل "م.ت.ف". وغضب الفرنسيون غضبا خاصا لأن عملية التصفية تمت على ارضهم.
وفي قصر الاليزيه أمروا القاضي المحقق جان لوي بروجيير الذي كان آنذاك المسؤول عن مكافحة الارهاب في فرنسا، ان يبدأ فورا تحقيقا عنيفا للحادثة. وفي مقابل ذلك بدأ جهاز الاستخبارات الفرنسي الداخلي (دي.اس.تي، وهو شبه مقابل "للشاباك" الاسرائيلي) يتخذ خطوات سريعة ترمي الى تضييق خطوات رجال "الموساد" في باريس بتعقبهم وقطع اللقاءات عليهم والتعرف عليهم وحرق مصادرهم وغير ذلك.
وهنا عاد قطعة الذهب الى الصورة: بعد ذلك سيزعم القاضي المحقق بروجيير ان ياسين كان هو الذي نقل الى اسرائيل المعلومات التي استُعملت لتصفية بسيسو.
ومرت بضعة اشهر و"برد" الميدان قليلا. واستمر ياسين ينقل المعلومات. وهكذا ولدت القصة الغريبة التالية:
في تشرين الاول 1992 توجه رفائيل ابراهام، وهو اسرائيلي في الخامسة والاربعين تورط اقتصاديا، الى ممثلي "م.ت.ف" في اوروبا وعرض مساعدته. وأُرسل الى تونس وحصل من جبريل الرجوب على 33 ألف دولار وسلاح ليقتل اسحق شامير واريئيل شارون وقادة آخرين. وضُمن له 100 ألف اخرى اذا نجح. وهبط ابراهام في مطار بن غوريون في كانون الاول من تلك السنة وانتقل الى فحص جوازات السفر حيث انتظره في نفاد صبر هناك رجال شرطة ورجال "الشاباك". واعترف ابراهام لكنه زعم انه خطط لأخذ المال دون تنفيذ الاعمال. ووقع على صفقة قضائية وحُكم عليه بسجن قصير. وبقوا في منظمة التحرير الفلسطينية فاغري الأفواه ولم يفهموا كيف قُضي على تدبيرهم وهو لا يزال في مهده.
قال لي جبريل الرجوب: "لم أفهم حقا كيف استطاع (الشاباك) ان يعرف عنه سريعا. انه لم يستطع ان يفعل شيئا، فلم يكد ينزل من الطائرة حتى أمسكوا به".
كان ياسين، بفضل منصبه، هو الذي اهتم بترتيبات دخول ابراهام وخروجه. ونقل التفصيلات الى مستعمله من "الموساد" وانتقلت من هناك الى "الشاباك" الذي انتظره في المطار. وقال ضابط التجميع في التحقيق الذي أُجري بعد ذلك في "الموساد" (وهو الضابط الذي عرفه ياسين باسم جورج) إن ياسين كان واضحا له في تلك المرحلة، بحسب رأيه، انه يعمل من اجل اسرائيل: "ربما كان ياسين "عرْسا" لكنه لم يكن غبيا، ومن الواضح لكل انسان من اسئلتي أنني أهتم بأمور قد تضر باسرائيل أو بالاسرائيليين".
مهما يكن الأمر، فإنه بعد قضية ابراهام أخذت تتضاءل المعلومات التي ينقلها قطعة الذهب. وخلصوا في "الموساد" الى استنتاج انه ينبغي تغيير صورة استعماله. وكان الاقتراح الاول ان يتم تزويد ياسين بأجهزة يستطيع بواسطتها ان يصور وثائق في مقر "م.ت.ف". ورُفضت الفكرة – وتقرر بسبب طبيعة الرجل ان هناك احتمالا لأن يُعامل هذه الاجهزة بصورة غير مهندمة بحيث يُعرض نفسه ويُعرض العملية كلها للخطر. "وهو ليس واحدا يمكن إدخاله في اجراءات التصوير والنسخ"، قال جورج.
وكان السؤال ماذا نفعل بياسين الآن. ولم يخطر ببال أحد في "الموساد" التخلي عن مصدر في القيادة العليا مغروس عميقا في قلب قيادة عدو مركزي. وكانت جملة واحدة قالها قطعة الذهب على نحو عارض في اللقاء التالي مع مستعمله هي التي أعطت "الموساد" الاجابة.
4- العملية أو "في غطاء جلدي فخم"
في مطلع نيسان 1993 أتم "الموساد" جولة لقاءات اخرى مع ياسين، ولم تكن المعلومات التي قدمها، مثل سائر المعلومات في الفترة الاخيرة، آسرة. لكن أمرا واحدا تحدث عنه أثار لدى رجال "الموساد" فكرة خلاقة.
جلس ياسين وأكثر الحديث. وفي نقطة ما بدأ يتحدث عن أمينة عباس زوجة أبو مازن. وقال إن أم مازن توجهت اليه لأنها علمت أنه الرجل الذي يستطيع ان يجلب الى تونس سلعة فاخرة. وقالت لياسين ان زوجي أبو مازن يعاني من زيادة وزن ولهذا يعاني آلام ظهر مضايقة. وتساءلت عن امكانية احضار مقعد مريح خاص من اوروبا يحل المشكلة؟ كانت تلك من وجهة نظر "الموساد" فرصة لا تجوز اضاعتها.
في المرحلة الاولى توجه رجال "تسوميت" الى قسم التقنيات في المنظمة وطلبوا موافقة على ان الفكرة التي فكروا فيها ممكنة. وأُعطيت الموافقة.
بعد ذلك فورا طلبوا من ياسين ان يبلغ أمينة عباس أن له صديقا هو تاجر أثاث باريسي، عنده في المستودع الكرسي المريح للعظام الذي يبحثون عنه بالضبط وليس هذا فقط بل انهم سيحصلون عليه بثمن بخس. أو يوجد شيء آخر تحتاجون اليه في المكتب؟ سأل ياسين أمينة. وهزت رأسها موافقة. وسألت اذا كان يوجد ايضا مصباح طاولة تزييني لكن مع قوة اضاءة عالية لأن نظر أبو مازن قد ضعف قليلا. ووعد ياسين بأن يفعل ما يستطيع.
وفي لقاء ياسين التالي مع رجال "الموساد" أُرشد الى تفصيلات العملية. وحصل على سلفة ثلاثة آلاف دولار ووعد بخمسة آلاف دولار اخرى حينما يُدخل الكرسي والمصباح الى غرفة أبو مازن. وكان القصد الى التأكد من أنه لن يحاول ان يبيعهما لشخص آخر أو يأخذهما لنفسه.
وفي أيار جاء ياسين، بصورة مفاجئة ايضا مع ابنه هاني، للقاء رجال "الموساد" في ميناء مرسيليا. ومن المهم ان نقول ان هاني لم يكن يعرف شيئا عن القضية كلها ولم يكن عالما بعمق علاقات أبيه بـ"الموساد" الاسرائيلي. وحصل ياسين على سيارة رينو 25 – وكانت سيارة فخمة جدا في تلك الايام – جاءت من المانيا. ووجدت فيها الاشياء المطلوبة وهي كرسي عظام خاص مع غطاء جلدي هو صنع يد فنان؛ ومصباح طاولة تزييني ذو قوة اضاءة قوية على نحو خاص. وانتقلت هذه الاشياء جميعا في السيارة فوق عبارة في الطريق الى تونس.
فاجأ ياسين كما قلنا آنفا رجال "الموساد" حينما جاء الى اللقاء مع ابنه. ودهشوا لأنهم رأوا انه مستعد لاشراك ابنه في عملية كهذه. لم يكن يعلم ما الذي يوجد في الكرسي وكان يمكن ان يفترض ايضا مثلا أنه مليء بمواد متفجرة، فلماذا يُشرك ابنه في قضية كهذه، وليس جواب ذلك واضحا اليوم ايضا.
وصلت السيارة والاثنان الى تونس واجتازا في سكون موظفي الجمارك ووصلا الى مقر قيادة "م.ت.ف" في حمام الشط. وقد جاء ياسين كما وصف تقرير التحقيق بعد ذلك، في ذلك اليوم مع ابتسامة كبيرة الى مكتب أبو مازن بل دعا أمينة لتكون حاضرة في مقام وضع الكرسي الخاص. وجهد في ان يحرك بنفسه الكرسي القديم شاتما من يهتم "بتأثيث بائس جدا لأناس مهمين جدا" ووضع هو نفسه الكرسي الذي جاء به. وبعد ذلك وضع المصباح على الطاولة وأوصله بالكهرباء وضغط الزر.
وبدأ البث يُتلقى في البلاد دفعة واحدة.
كان المصباح شيئا مهما في عملية قطعة الذهب. فالمصباح بعكس الكرسي الذي كان يستمد من بطاريات تنفد (ولهذا يُحتاج في وقت ما الى استبدالها) كان يستمد من شبكة الكهرباء وكان يفترض ان يعمل مثل سماعة طوال سنين كثيرة حتى لو لم ينجحوا في تبديل البطاريات في الكرسي. ورُكب في الكرسي نفسه جهاز مضاعف لتوفير الطاقة ونظام نوابض ايضا شغّل السماعات حينما يجلس أبو مازن فقط على الجلد ونظام تشغيل بواسطة الصوت (فويس اكتفيشن) كي لا يضيع وقت بطارية ثمين اذا كان أبو مازن يجلس وحده ولا يُحدث أحدا.
وفي اسرائيل دُعي الى "الموساد" أناس من المسؤولين عن الارهاب في "أمان" حيث حدّثوهم عن الانجاز غير العادي. وتم تبادل تربيت الأكتاف في ذلك الحفل المرتجل. وكان شبتاي شبيط فخورا جدا وبحق.
5- البث أو كشف شبيط
بدأت التقارير تتراكم منذ اللحظة الاولى. فقد كان أبو مازن مركز نشاط "م.ت.ف" وجاء عدد لا يحصى من الناس الى مكتبه وذهبوا. واحتاج العاملون في حل الألغاز من "الموساد" الى عدة ايام وانضم اليهم عدد من الخبراء بالعرب ذوي المهارة من الوحدة 8200 من اجل تطوير ما يسمى "بت ريش" أو "فهم شبكي". أي فهم من الذي يتحدث وفيمَ. إن الاحاديث بين الاشخاص غير مبنية بصورة منظمة ومُعدة لحل أسرارها وينبغي الكشف عن علم مسبق بالمعلومات المتحدث فيها والاشخاص المتحدث عنهم.
لكن ظهرت من التقارير التي أُنتجت بمعدل يدير الرأس معلومة أشد مفاجأة، فقد تبين أن أبو مازن يراقب ممثليه من بعيد الذين يعملون في عدة اماكن في اوروبا ولاسيما في اوسلو ويشتغلون بالاتصال باسرائيليين. وفي تلك الفترة كان قانون يحظر الاتصال بـ "م.ت.ف" ساري المفعول، ولهذا كان يبدو في البدء ان الحديث عن معلومة يجب نقلها على عجل الى وزارة القضاء لعلاج الاشخاص الذين يلتقون مع "م.ت.ف" خلافا للقانون. بيد انه تبين من تلك التقارير بعد ذلك ان الحديث عن اشخاص اسرائيليين كبار الشأن ويبدو أنهم كانوا يفعلون ذلك باذن.
وصلت هذه الامور الى علم رئيس "الموساد" شبتاي شبيط الذي فوجئ جدا. وقد كان شمعون بيريس (وزير الخارجية آنذاك) واسحق رابين (رئيس وزراء اسرائيل آنذاك) يديران في تلك الفترة بصورة شديدة السرية الجزء السري من مسيرة اوسلو وهو الاتصالات بـ "م.ت.ف" التي نضجت لتصبح اتفاق المبادئ مع المنظمة في ايلول 1993. وتبنى نائب وزير الخارجية يوسي بيلين وبيريس بعد ذلك الذي أقنع رابين بمحاولة الفحص عن امكانية التوصل الى شق طريق في الشرق الاوسط، وهي المسيرة التي بدأت بصفة مبادرة من عدد من الاكاديميين.
أمر رئيس الوزراء رابين خشية تسريبات تحرج الحكومة جدا بسياسة تكتم مطلق. وأمر الوحدات في 8200 التي كانت مسؤولة عن اعتراض اتصالات "م.ت.ف"، ان تنقل مباشرة اليه مادة فيها مشاركة أو أي ذكر لاسرائيليين مع الالتفاف على المستوى العسكري فوقها المشتمل على رئيس "أمان" ورئيس هيئة الاركان. ولم يخبر رابين رئيسي "الشاباك" و"الموساد" بما يحدث إلا في مرحلة متأخرة. لكن رابين لم يأخذ في حسابه أو ربما لم يكن عالما تماما، بمعنى الكرسي والمصباح في مكتب أبو مازن. تلقى شبتاي شبيط بحسب اقوال مقرب منه، في تفاجؤ كبير جدا الانباء عن التفاوض الذي يجري من وراء ظهره مع "م.ت.ف" التي كانت تعتبر عدوا مركزيا. وتوجه الى رابين واشتكى في غضب انه يُقصى عن شأن مركزي جدا.
وآنذاك صمت كل شيء فجأة. ففي ذات يوم في نهاية حزيران 1993 بعد ثلاثة اسابيع ونصف من ادخال الكرسي والمصباح الى غرفة أبو مازن توقف هوائي الاستقبال في مقر "الموساد" عن تلقي البث. وأدركوا في "الموساد" أن المصباح والكرسي توقفا عن البث في الوقت نفسه ان شيئا ما سيئا جدا حدث لعمليتهم الجليلة.
6- اللغز أو : إبحث عن المُسرب
حاولوا في "الموساد" بالطبع انشاء اتصال مع ياسين ليفحصوا معه عما حدث لكنه لم يجب. وعلم "الموساد" بعد بضعة ايام بأن"م.ت.ف" كشفت عن جهازي التنصت وان ياسين معتقل ويخضع لتحقيقات شديدة. وساد "الموساد" جو كآبة. ويستعيد واحد من العاملين في قسم حل الأسرار في المنظمة قائلا: "لم نفهم كيف أمكن ذلك، كيف يمكن انه بعد وقت قصير جدا من نجاحنا في ادخال الجهاز الى الداخل يسقط مع العميل الذي جلبه".
نشرت "م.ت.ف" روايتين مختلفتين عن صورة الكشف عن العملية: فعلى حسب الرواية الاولى، قاد تحقيق القاضي الفرنسي بروجيير الى ياسين. أي ان التحقيق الذي بدأ بسبب غضب الفرنسيين لاغتيال بسيسو فوق ارضهم سبب الكشف عن قطعة الذهب. وقال بروجيير نفسه في حديث معي: "كان من المهم عندي ان أكشف من الذي أبلغ المغتالين عن خطط بسيسو. وحاولت ان أُضيق قدر المستطاع عدد الاشخاص الذين عرفوا بالضبط الى أين يسافر وأين ينزل".
وشك بروجيير في ان ياسين زود القاتلين وليكونوا من كانوا، بالمعلومات عن برنامج رحلات بسيسو. بل انه نجح بحسب كلامه في ان يعترض بعد ذلك جزءا من المكالمات الهاتفية لياسين الى صناديق البريد الصوتي في اوروبا حيث ترك رسائل لـ"الموساد" كانت واحدة منها قُبيل خروج بسيسو من تونس.
قد يكون تحقيق بروجيير هو الذي أدى الى الكشف. بيد انه يثور سؤال هنا لأن الفحص الدقيق عن محور الزمن يُبين ان مستنتجات القاضي صدرت بعد سنة فقط من اعتقال ياسين والكشف عن الجهازين. ويقول لنا شخص فرنسي آخر مطلع على التفصيلات ان القصة عكسية بالضبط. فقد اعتقل ياسين وفي التحقيق معه مع الضرب الشديد سلّم كل نظام الصناديق الصوتية في اوروبا التي تلقى عن طريقها ونقل معلومات الى "الموساد". ونُقلت هذه المعلومات الى بروجيير وهو يستعملها في الملف المفتوح الذي ما زال يعالجه في شأن من صفوا بسيسو.
وصدرت رواية اخرى عن جبريل الرجوب الذي كان من المقربين من عرفات في تونس آنذاك. فقد قال ان رجال "م.ت.ف" شعروا بأنهم على اتصال بالاسرائيليين وكأن اسرائيل "تقرؤهم" وتعلم ما الذي يخططون لقوله وأي تكتيكات تفاوض سيستعملون. "ارتاب أبو مازن ببساطة أنهم يتنصتون عليه"، يقول الرجوب "واستدعى فريقا من الاستخبارات التونسية في مكاتب "م.ت.ف". وجاء الاشخاص مع اجهزتهم معي، ورأوا فجأة ان الكرسي يبث. ورأوا بعد ذلك ان المصباح ايضا يبث".
ويستعيد الرجوب مبتسما كيف خلع التونسيون الجلد الفاخر عن الكرسي أمام ناظري أبو مازن الدهش وكشفوا عن نظام السماعات واجهزة البث في داخله. بعد ذلك كسروا المصباح وكشفوا عما احتوى عليه. وتذكر أبو مازن بالطبع من زوده بالكرسي والمصباح وأرسل الفريق لاعتقال ياسين فورا. ويقول الرجوب: "كانت تلك صدمة لي فلم أكن لأصدق ان يفعل عدنان ذلك".
لكنه يمكن الشك في هذه الرواية ايضا التي سمعتها من الرجوب قبل بضع سنوات، فأولا لم يحصل فريق التفاوض على معلومات استخبارية ولهذا لم يكن قادرا على استعمالها في مفاوضة أناس "م.ت.ف". وثانيا لم يتم التفاوض مع مكتب أبو مازن فقط. فكيف حدث ان وصل الرجوب ورجال الاستخبارات التونسيون مباشرة الى غرفته خاصة وبدأوا فورا الفحص؟.
إن انهيار عملية قطعة الذهب بعد وقت قصير من استكمالها أثار صدى واسعا في حلقة المطلعين على السر في الجماعة الاستخبارية الاسرائيلية. ويثور منذ ذلك الحين الى اليوم جدل في سؤال ما الذي حدث في هذه القضية. وكان كثيرون في "الموساد" الذي أراد ان يحمي عمليته قالوا ان الحديث كما يبدو عن عمل الصدفة. وفي المقابل يوجد في قسم مكافحة الارهاب من "أمان" من يعتقدون ان ذلك كان تسريبا متعمدا أفضى الى سقوط العملية وهو تسريب كان يرمي الى الابقاء على التفاوض سريا قدر المستطاع. ويقول واحد من رجال الميدان "صحيح ان المعلومات التي جاءت من الكرسي المرنم كان يمكن ان تساعد جدا فريق التفاوض، لكن هذه المعلومات في اللحظة التي تدخل فيها الى الحاسوب ونظام المجموعة الاستخبارية تُوسع كثيرا حلقة المطلعين على السر وفي غضون ايام معدودة تجد هذا النبأ الآسر – وهو ان اسرائيل تجري تفاوضا مع "م.ت.ف" – في عنوان صحافي رئيس في صحيفة "يديعوت احرونوت"".
اذا كانت عملية قطعة الذهب قد سُربت من داخل اسرائيل حقا فالحديث بالطبع عن تقصير شديد جدا. وقد سألت في نصف السنة الاخير مسؤولين فلسطينيين كبارا كثيرين كيف عرفت "م.ت.ف" بوجود اجهزة تنصت عند أبو مازن. واستمر فريق كبير من هؤلاء الاشخاص على رواية الرجوب أي الارتياب والبحث بالصدفة. وحدث تحول في المدة الاخيرة فقد قال مسؤولان كبيران أحدهما في برلين والثاني في رام الله ان الوشاية هي التي أفضت الى الكشف عن الاجهزة المركبة. وعلى حسب ما قال أحدهما تلقى ممثل "م.ت.ف" في اوروبا مكالمة هاتفية مجهولة فيها تحذير بالانجليزية يقول "أنتم مكشوفون تماما للاسرائيليين. يوجد جهاز تنصت في مكتب عباس".
وعلى حسب المصدر في رام الله، "تلقينا بلاغا من جهة صديقة عندكم تقول ان كل ما يحدث عند أبو مازن تعرفونه. ولم نكن نحتاج الى أكثر من ذلك".
ينبغي بالطبع ان ننظر الى هذه الاقوال في شك وارتياب وحتى لو كانت صحيحة فإنها تزيد في قوة اللغز فقط لأن السؤال الأكبر ما زال على حاله وهو من الذي قام بالمكالمة؟ ومن الذي قدّم البلاغ؟.
يقول واحد من قادة "الموساد" انه "وجد عددا من الفرضيات بعد سقوط العملية فورا تبين كيف حدث ذلك. قالت احداها انه كانت جهة خارجية وقالت الثانية انهم الفرنسيون وقالت الثالثة انه شخص ما منا زل لسانه بشيء ما خطأ وأثار ذلك الشك عند الفلسطينيين. ولا توجد أية معلومات صادقة تبين أي فرضية هي الصحيحة. آمل ان يسارع نتنياهو الى صنع سلام مع الفلسطينيين وان تُفتح الملفات آنذاك ونعلم ما الذي حدث في الحقيقة".
ويقول رئيس "الموساد" في زمن القضية شبتاي شبيط: "حسن أنك تتوجه إلي لكن من المؤكد أنك تتوقع ان أرد".
ولم يغير كل ذلك شيئا بالنسبة لياسين نفسه وهو قطعة الذهب في السابق لأن التحقيق معه استمر بضعة اشهر. وجاء عرفات نفسه الى زنزانته كي يسمع حكاية تجنيده للاستخبارات الاسرائيلية. وفي التحقيق بُرئ الابن هاني ياسين من كل شبهة وأُفرج عنه فورا. واعترف ياسين بكل التهم الموجهة إليه وإن كان قد زعم انه كان مخدوعا ولم يعلم من يخدم ولماذا. وصدق انه حصل من جورج على بضع عشرات آلاف الدولارات على نحو متراكم. ولم يُعدم بضغط ثقيل من اسرائيل وحكم عليه بالسجن 15 سنة فقط وهذه عقوبة خفيفة جدا نسبيا مع حقيقة انه نُسب اليه مشاركة عميقة في اغتيال بسيسو. وحينما انتقلت "م.ت.ف" من تونس الى المناطق نُقل الى سجن في غزة. وفي 1996 أُفرج عنه وانتقل الى دولة خارج الشرق الاوسط.
الى اليوم، بعد عشرين سنة، يتساءل غير قليل من الاشخاص في الجماعة الاستخبارية: ماذا كان سيحدث لو ان الكرسي والمصباح في مكتب عباس استمرا في "التنغيم"؟ أكان يتغير اتفاق اوسلو – وكل تاريخ الشرق الاوسط نتاج ذلك؟.