قصة الثلاثه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك [السيرة النبوية)
قد يكون الجهاد فرض عين على المسلم، كما لو عينه الإمام ، ولا يجوزله التخلف عنه حينئذ إلا لعذر شرعي . لذلك عندما يستنفر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين للجهاد يخرج كل مسلم صادق ، ولا يتخلف إلا أهل الأعذار الشرعية أو أهل النفاق، ولكن في غزوة تبوك تخلف ثلاثة رجال كعب بن مالك و مرارة بن ربيع و هلال ابن أبي أمية عن الغزو مع الرسول صلى الله عليه وسلم من غير عذر شرعي ولا نفاق.
تخلف الثلاثة عن الغزو الذي كان في زمان الحر والشدة ، ولكن رغم فداحة الذنب وعظمته تجاوز الله عنهم وغفر لهم صنيعهم ، لأنهم كانوا صادقين مع أنفسهم ومع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يخادعوه ولم يأتوا بأعذار كاذبة ، بل صدقوا واعترفوا بتخلفهم ، ولجؤوا إلى الله تائبين مستغفرين فتاب الله عليهم
وهاهو كعب بن مالك رضي الله عنه يسرد ملخصا لهذه المحنة
قال كعب : غزا النبي صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتجهز المسلمون معه ، ولم أتجهز وأقول في نفسي سألحق بهم حتى إذا خرجوا ظننت أني مدركهم، وليتني فعلت ، فلما انفرط الأمر ، أصبحت وحدي بالمدينة لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق - أي مشهورا به - أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء، فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد راجعا من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول : بماذا أخرج من سخط رسول الله ؟ واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، زال عني الباطل، وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه .
فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة بدأ بالمسجد وجلس للناس ، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر لهم ، وكانوا بضعا وثمانين رجلاًَ ، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب ، فقال لي ، ما خلفك ؟ قلت: يا رسول الله والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا ، لخرجت من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً ، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك .
فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم أعتذر، ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى هممت أن أرجع عن صدقي، فسألت هل قال أحد بمثل ما قلت؟ فذكروا لي رجلين صالحين: مرارة بن الربيع و هلال بن أبي أمية وكان فيهما لي أسوة .
ثم إن رسول الله نهى عن محادثتنا نحن الثلاثة ، فاجتبنا الناس ، وتغيروا لنا ، فتنكرت لي نفسي والأرض ، أما صاحبيّ فاستكانا وقعدا في بيتيهما ، أما أنا فأصلى مع المسلمين وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد حتى أقاربي .
بينما أنا في هذا الحال إذا جاءت رسالة من ملك غسان يقول لي : الحق بنا نواسيك بعد أن هجرك صاحبك ، قلت: هذا من البلاء أيضا ، فحرقت الرسالة ، فلما مضت أربعون ليلة إذ رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني باعتزال امرأتي فقلت : الحقي بأهلك ، وكان الأمر باعتزال النساء لصاحبيّ أيضاً .
فلما مضت خمسون ليلة أذن الله بالفرج وجاءت التوبة ، قال كعب: فما أنعم الله علي بنعمة بعد الإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، و الله ما أعلم أحداً ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني .
والآيات التي نزلت في توبتهم هي قوله تعالى:{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة:118،119).
وهكذا أزاح الله هذه الغشاوة المحزنة عن هؤلاء النفر الثلاثة، بعدما كادوا يقعون في الهلاك بسبب تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضاقت عليهم الأرض رغم رحابتها، وضاقت عليهم أنفسهم، فعلموا أن الملجأ من الله لا يتم إلا بالعودة إليه، فاستجاب الله لهم ،وغفر زلتهم، وهذه القصة اشتملت على فوائد و عبر كثيرة :
منها: أن القعود عن الجهاد عند استنفار الإمام يعد إثما كبيرا في الإسلام تجب التوبة منه.
ومنها: تعامل الصحابة مع أمر النبي صلي الله عليه وسلم، وتنفيذهم له ،حتى ولو كان الأمر يتعلق بأقاربهم.
ومنها: ولاء الصحابة الصادق لله ،فرغم فداحة الحادثة وصعوبة المقاطعة لم يفكر كعب بن مالك في اللحاق بالكافرين ولم يلتفت إلى عرضهم .
ومنها: قيمة الصدق في الإسلام ، وكيف أن الصدق هدى الثلاثة إلى البر ورضوان الله، اللهم ارزقنا الصدق، واحشرنا مع الصديقين.
حديث أمر النبي في هجران الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك
وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثلاثة الذين تخلفوا عنه بهجرانهم ومباينتهم، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم حتى أنزل الله -عز وجل- توبتهم .
--------------------------------------------------------------------------------
نعم، في هذا دليل على أنه ينبغي هجران أهل البدع والمعاصي؛ ولهذا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، وصدقوا الرسول -عليه الصلاة والسلام- لما جاء من غزوة تبوك، أخبروه بأنهم ليس عندهم عذر، والمنافقون الذين تخلفوا كذبوا وحلفوا، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل منهم علانيتهم، وأوكل سرائرهم إلى الله.
أما هؤلاء فهم صدقوا وقالوا: ليس لنا عذر، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هجرهم والمسلمون خمسين ليلة، خمسين ليلة هجروهم، لا يكلمونهم، ولا يردون عليهم السلام، ولا يجيبون دعوتهم، ولما مضت أربعون ليلة أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعتزلوا نساءهم أيضا، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم الدنيا بأسرها.
أما هلال بن أمية ومرارة بن الربيع كل واحد منهم قعد في بيته يبكي، ولا يصلون مع الجماعة، مهجورون، وهذا فيه دليل أنه قد -في هذه الحالة- قد تسقط عنهم الجماعة.
وأما كعب بن مالك فكان أشب القوم، كان يطوف في الأسواق ويسلم، ولا أحد يرد عليه السلام، حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت، حتى جاء إلى ابن عمه الذي هو أحب الناس إليه، فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، وقال: يا فلان -وهو أحب الناس إليه- أسألك هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ وكررها ثلاثا، فلم يرد عليه، حتى قال في الثالثة: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناه، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.
فجاءهم الفرج، وأنزل الله توبتهم من فوق سبع سماوات قرآنا يتلى إلى يوم القيامة: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة هجروا هؤلاء الثلاثة خمسين ليلة، ولم يهجروا المنافقين، فقال المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره: إن الهجر كالدواء، يستعمل كالدواء، علاج، إن كان ينفع يُهجر العاصي والمبتدع، أما إذا كان الهجر يزيده شرا فلا يُهجر، وليستمر على دعوته.
من بعض العصاة إذا هجرته زاد شره وبلاؤه، إذا لم تهجره يراعيك بعض الشيء، ويخفف من الشر، لكن إذا هجرته صار لا يبالي، وزاد في شره، هذا لا تهجره، تستمر في نصيحته، أما إذا كان الهجر ينفعه، ويترك المعصية، ويرجع عن المعصية والبدعة فاهجره.
والشاهد من هذا أن أهل البدع يجب هجرهم، والعصاة يجب هجرهم، ومن ذلك أهل البدع والمبتدعة في الأسماء والصفات، من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، يجب هجرانهم، ومباينتهم، والبعد عنهم، وعدم مجالستهم، وعدم السلام عليهم، وعدم إجابة دعوتهم؛ حتى يتوبوا عن بدعتهم. نعم.
{ لـقـد تـاب الله عـلـى الـنـبـي والـمـهـاجـريـن والأنـصـار الـذيـن اتـبـعـوه فـي سـاعـة الـعـسـرة مـن بـعـد مـا كـاد يـزيـغ قـلوب فـريـق مـنـهـم ثـم تـاب عـلـيـهـم إنـه بـهـم رءوف رحيم * وعلى الـثـلاثـة الـذيـن خـُـلِـّـفـوا حـتـى إذا ضـاقـت عـلـيـهـم الأرض بـمـا رحُـبـَـت وضـاقـت عـلـيـهـم أنـفـسـهـم وظـنـوا أن لا مـلـجـأ مـن الله إلا إلـيـه ثـم تـاب عـلـيـهـم لـيـتـوبـوا إن الله هـو الـتـواب الـرحـيـم * يـا أيـهـا الـذيـن ءامـنـوا اتـقـوا الله وكـونـوا مـع الـصـادقـيـن * ...الـتـوبـة : 117 ــ 119 } .
*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*
عـن كـعـب بـن مـالـك رضي الله عـنـه ( يـحـكـي قـصـة تـوبـة الله عـلـيـه عـن تـأخـره عـن رسـول الله صلى الله عليه وسلم فـي سـاعـة الـعـسـرة ) قـــال :
لـم أتـخـلـف عـن رسـول الله صلى الله عليه وسلم في غـزوة غـزاها إلا فـي غـزوة تـبـوك ، غـيـر أنـي كـنـت تـخـلـفـت فـي غـزوة بـدر ولـم يُـعـاتـب أحـدا تـخـلـف عـنـهـا ، إنـمـا خـرج رسـول الله صلى الله عليه وسلم يـريـد عِــيـرَ قـريـش حـتـى جـمـع الله بـيـنـهـم وبـيـن عـدوّهـم عـلـى غـيـر مـيـعـاد .
ولـقـد شـهـدت مـع رسـول الله صلى الله عليه وسلم لـيـلـة الـعـقـبـة حـيـن تـواثـقـنـا عـلـى الاسـلام ، ومـا أحـب أن لـي بـهـا مـشـهـد بـدر ، وإن كـانـت بـدر أذكـَـرَ فـي الـنـاس ..... وكـان مـن خـبـري :
أنـي لـم أكـن قـط أقـوى ولا أيـسـر حـيـن تـخـلـّـفـت عـن رسـول الله صلى الله عليه وسلم فـي تـلـك الـغـزوة ، والله مـا اجـتـمـعـت عـنـدي قـبـلـه راحـلـتـان قـط حـتـى جـمـعـتـهـمـا فـي تـلـك الـغـزوة ، ولـم يـكـن رسـول الله صلى الله عليه وسلم يـريـد غـزوة إلا وَرّى بـغـيـرهـا ، حـتـى كـانـت تـلـك الـغـزوة غـزاهـا فـي حـر شـديـد ، واسـتـقـبـل سـفـرًا بـعـيـدًا ومَـفـازًا وعـدوًا كـثـيـرًا ، فـجَـلـّى لـلـمـسـلـمـيـن أمـرهـم لـيـتـأهـبـوا أهـبـة غـزوهـم ، فـأخـبـرهـم بـوجـهـه الـذي يـريـد . والـمـسـلـمـون مـع رسـول الله صلى الله عليه وسلم كـثـيـر ولا يـجـمـعـهـم كـتـاب حـافـظ ... ( سجـل أو ديـوان ) ... فـمـا رجـل يـريـد أن يـتـغـيّـب إلا ظـن أن سـيـسـتـخـفـي لـه مـا لـم يـنـزل فـيـه وحـي الله .
وغـزا رسـول الله صلى الله عليه وسلم تـلـك الـغـزوة حـيـن طـابـت الـثـمـار والـظـلال ، وتـجـهـز رسـول الله صلى الله عليه وسلم والـمـسـلـمـون مـعـه . فـشـرعـت أغـدو لـكـي أتـجـهـز مـعـهـم فـأرجـع ولـم أقـض شـيـئـا .
فـأقـول فـي نـفـسـي : أنـا قـادرعـلـيـه ، فـلـم يـزل يُـتـمـادى بـي حـتـى اشـتـد بـالـنـاس الـجـدّ . فـأصـبـح رسـول الله صلى الله عليه وسلم والـمـسـلـمـون مـعـه ولـم أقـض مـن جَـهَـازي شـيـئـا . فـقـلـت :
أتـجـهـز بـعـد يـوم أو يـومـيـن ، ثـم ألـحـقـهـم ، فـغـدوت بـعـد أن فــَصَـلـوا لأ تـجـهـز ، فـرجـعـت ولـم أقـض شـيـئـا ، ثـم غـدوت ، ثـم رجـعـت ولـم أقـض شـيـئـا . فـلـم يـزل بـي حـتـى أسـرعـوا وتـفـارط الـغـزو ( فـات وقـتـه ) .
وهَـمَـمْـتُ أن أرتـحـل فـأدركـهـم ــ ولـيـتـنـي فـعـلـت ــ فـلـم يُـقـَدّر لـي ذلـك . فـكـنـت إذا خـرجـت فـي الـنـاس بـعـد خـروج رسـول الله صلى الله عليه وسلم فـطــُـفــْتُ فـيـهـم ـ أحـزنـنـي أنـي لا أرى إلا رجـلا مـغـمـوصـا عـلـيـه الـنـفـاق ( مـطـعـونـا فـي ديـنـه ) ، أو رجـلا مـمـن عـذر الله مـن الـضـعـفـاء .
ولـم يـذكـرنـي رسـول الله صلى الله عليه وسلم حـتـى بـلـغ تـبـوك . فـقـال ... وهـو جـالـس فـي الـقـوم بـتـبـوك ... : مـا فــعــل كــعــب ؟
فـقـال رجـل مـن بـنـي سَــلِـمَـة : يـا رسـول الله حـبـسـه بُـرداه و نـظـره فـي عِـطــْـفِـهِ .
فـقـال مـعـاذ بـن جـبـل : بـئـس مـا قـلـت ، والله يا رسـول الله مـا عـلـمـنـا عـلـيـه إلا خـيـرا . فـسـكـت رسـول الله صلى الله عليه وسلم .
*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*
قـــــال كـعـب بـن مـالـك :
فـلـمـا بـلـغـنـي أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم تـوجّـه قـافـلا ( راجـعـًـا ) حـضـرنـي هـَـمّـي ، وطـفـقـت أتـذكـّـر الـكـذب ...
وأقـــول : بـمـاذا أخـرج مـن سـخـطـه غـدًا ؟ واسـتـعـنـت بـكـل ذي رأي مـن أهـلـي ....
فـلـمـا قـيـل : أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قـد أظــَـلّ قـادمـا زاح عـنـي الـبـاطـل ! ، وعـرفـت أنـي لـن أخـرج مـنـه أبـدًا بـشـيء فـيـه كـــذب !! . فـأجـمـعـت صِـدقـه .
وأصـبـح رسـول الله صلى الله عليه وسلم قـادمـا ، فـكـان إذا قـدم مـن سـفـر بـدأ بـالـمـسـجـد فـركـع فـيـه ركـعـتـيـن ، ثـم جـلـس لـلـنـاس . فـلـمـا فـعـل ذلـك جـاء الـمُـخـَـلـّـفـون فـطـفـقـوا يـعـتـذرون إلـيـه ويـحـلـفـون لـه ـــ وكـانـوا بـضـعـة وثـمـانـون رجـلا ـــ فـقـبـل مـنـهـم رسـول الله صلى الله عليه وسلم عـلا نـيـتـهـم ، وبـايـعـهـم واسـتـغـفـر لـهـم !!! ، ووكـّـل سـرائـرهـم إلـى الله عـزّ وجـلّ .
فـجـئـتـه ، فـلـمـا سـلـّـمـت عـلـيـه تـبـسّـم تـبـسّـم الـمُـغـضِـب .
ثـم قـــــــال : (( تـعـــــــــال )) !! .
فـجـئـت أمـشـي حـتـى جـلـسـت بـيـن يـديـه .
فـقـــــــال : (( مــا خــلــّـفــَـك ؟ ألـم تـكـن قـد ابـتـعـت ظـهـرك ... نـاقـــتــــــك ... )) .
فـقـلــــت : بـلـى ، إنـي ــ والله ــ إن جـلـسـت عـنـد غـيـرك مـن أهـل الـدنـيـا لـرأيـت أن سـأخـرج مـن سـخـطـه بـعـذر ، ولـقـد أعـْـطِـيـتُ جَــدلا ً ، ولـكـنـي ــ والله ــ لـقـد عـلـمـتُ لـئـن حـدّثـتـك الـيـوم حـديـث كـذب تـرضـى بـه عـنـي لـيُـوشِـكـَـنّ الله أن يُـسْـخِـطــُـك عَـلـيّ ، ولـئـن حـدثـتـك حـديـث صِـدق تـجـِـدُ ( تـغـضـب ) عَـلـيّ فـيـه إنـي لأرجـو فـيـه عـفـو الله ، لا والله مـا كـان لـي مـن عُـذر ، ووالله مـا كـنـت أقـوى ولا أيْـسَـرَ مـنـي حـيـن تـخـلـفـت عـنـك .
فـقـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : (( أمّـا هـذا فـقـد صَـدَقَ فـَـقــُـمْ حـتـى يـقـضـي الله فـيـك )) .
فـقـمـت ، فـثـار رجـال مـن بـنـي سَـلــَـمَـةَ فـاتـّـبَـعُـــونـي .
فـقـالـــوا لـي : والله مـا عـلـمـنـاك كـنـت أذنـبـت ذنـبًـا قـبـل هـذا ؟ ولـقـد عـجـزت أن لا تـكـون اعـتـذرت إلـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم بـمـا اعـتـذر بـه الـمـخـلـّـفـون ، وقـد كـان كـافـيـك ذنـبـك إسـتـغـفـار رسـول الله صلى الله عليه وسلم لـك . فـوالله مـا زالـوا يُـؤنِـّبـُونِـي حـتـى هـمَـمْـت أن أرجـع فـأكـذب نـفـسـي .
ثـم قـلـــت لـهـم : هـل لـقِـيَ هـذا مـعـي أحـدًا ؟
قـالـــــوا : نـعـم ، رجـلان قـالا مـثـل مـا قـلـت ، وقـيـل لـهـمـا مـثـل مـا قـيـل لـك .
فـقــلــت : مـن هـمـا ؟
قـالـــوا : مُـرارة بـن الـربـيـع الـعَـمْـري ، وهـلال بـن أمـيّـة الـواقـفـي ...
فـذكـروا لـي رجـلـيـن صـالـحـيـن قـد شـهـدا بـدرًا فـيـهـمـا أسـوة ، فـمـضـيـت حـيـن ذكـروهـمـا لـي . ونـهـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم عـن كـلامـنـا أيـهـا الـثـلاثـة مـن بـيـن مـن تـخـلـف عـنـه ، فـاجـتـنـبـنـا الـنـاس وتـغـيّـروا لـنـا حـتـى تـنـكـرت فـي نـفـسـي الأرض ، فـمـا هـي الـتـي أعـرف ، فـلـبـثـنـا عـلـى ذلـك خـمـسـيـن لـيـلـة .
فـأمـا صـاحـبـاي فـاسـتـكـانـا ( خـضـعـا و ذلا ) وقـعـدا فـي بـيـوتـهـمـا يـبـكـيـان ، وأمـا أنـا فـكـنـت أشـَبّ الـقـوم وأجـلـَدَهـم ، فـكـنـت أخـرج فـأشـهـد الـصـلاة مـع الـمـسـلـمـيـن ، وأطـوف فـي الأسـواق ولا يـكـلـمـنـي أحـد . وآتـي رسـول الله صلى الله عليه وسلم فـأسَـلِـّـمُ عـلـيـه وهـو فـي مـجـلـسـه بـعـد الـصـلاة .
وأقـــول فـي نـفـسـي : هـل حـرّك شـفـتـيـه يـرد الـسـلام عـلـيّ أم لا ؟
ثـم أصَــلِـّي قـريـبـا مـنـه فـأسـارقـه الـنـظـر ( أنـظـر إلـيـه وهـو لا يشعـر ) فـإذا أقـبـلـت عـلـى صـلاتـي أقـبـل إلـيّ، وإذا الـتـفـت نـحـوه أعـرض عـنـي . حـتـى إذا طـال عـلـيّ مـن جـفـوة الـنـاس ( الـغـلـظ في الـمـعـاشـرة ) مـشـيـت حـتـى تسَـوّرت جـدار حـائـط ( بـسـتـان ) أبـي قـتـادة ـــ وهـو ابـن عـمـي وأحـب الـنـاس إلـيّ ـــ فـسـلـمـت عـلـيـه ، فـوالله مـا ردّ الـسـلام عـلـيّ .
فـقـلـت : يـا أبـا قـتـادة ، أنـشـدك بـالله هـل تـعـلـمـنـي أحـب الله ورسـولـه ؟ فـسَـكـَـتَ ، فـعـدت لـه فـنـشـدتـه ، فـسـكـَتَ ، فـعـدت لـه فـنـشـدتـه .
فـقـــال : الله ورسـولـه أعـلـم !!! .
فـفـاضـت عـيـنـاي وتـولـّـيْـتُ حـتـى تـسـوّرت الـجـدار .
*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*
قـــال كـعـب بـن مـالـك :
وبـيـنـا أنـا أمـشـي بـسـوق الـمـديـنـة إذ نـَبـَـطِـيّ مـن أنـبـاط أهـل الـشـام مِـمّـن قـدِمَ بـطـعـام يـبـيـعـه بـالـمـديـنـة .
يـقـــول : مـن يـدلـّـنِـي عـلـى كـعـب بـن مـالـك ؟
فـطـفـق الـنـاس يُـشِـيـرون لـه ، حـتـى إذا جـاءنـي دفـع إلـيّ كـتـابـًا مـن مـلـك غـسـان ( وهـو جـبـلـة بـن الأيـهـم ) فـي سَـرَقــَـةٍ مـن حـريـر ( قـطـعـة مـن جـيّـد الـحـريـر ) ..... فـإذا فـيـهـا :
( أمـا بـعـد : فـإنـه قـد بـلـغـنـي أن صـاحـبـك قـد جـفـاك ، ولـم يـجـعـلـك الله بـدار هـوان ٍ ولا مَـضـْـيَـعَـة فـالـْـحَـقْ بـنـا نِـواسِـك ) .
فـقـلـت لـمّـا قـرأتـهـا : وهـذا أيـضـا مـن الـبـلاء !! فـقـصـدت بـهـا الـتـنـور فـسـجـرتـه ( أدخـلـتـه ) بها .
فـأقـمـنـا عـلـى ذلـك حـتـى إذا مَـضـَت أربـعـون لـيـلـة مـن الـخـمـسـيـن ، إذا رسـول رسـول الله صلى الله عليه وسلم يـأتـيـنـي .
فـقـــــال : إن رسـول الله صلى الله عليه وسلم يـأمـرك أن تـعـتـزل امـرأتـك .
فـقـلـت : أطـلـقـهـا أم مـاذا أفـعـل ؟
قـــــال : لا ، بـل اعـتـزلـهـا ولا تـقـربـهـا .
وأرسـل رسـول الله صلى الله عليه وسلم إلى صـاحـبـَـيّ بـمـثـل ذلـك .
فـقـلـت لامـرأتـي : إلـحـقـي بـأهـلـك فـكـونـي عـنـدهـم حـتـى يـقـضـي الله فـي هـذا الأمـر .
*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*
قـــال كـعـب بـن مـالـك :
فـجـاءت امـرأة هـلال بـن أمـيـة إلـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم .
فـقـالـت : يـا رسـول الله إن هـلال بـن أمـيـة شـيـخ ضـائـع ، لـيـس لـه خـادم ، فـهـل تـكـره أن أخـدمـه ؟ ( هـكـذا وفـاء الـمـرأة الـمـسـلـمـة ... زيادة ليست مـن الـنـص ) .
قـــــال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا ، ولـكـن لا يـقـربـك )) .
قـالـت : إنـه ــ والله ــ مـا بـه حـركـة إلـى شـيء ، والله مـا زال يـبـكـي مـنـذ كـان مـن أمـره مـا كـان إلـى يـومـه هـذا .
قـــال كـعـب بـن مـالـك :
فـقـال لـي بـعـض أهـلـي : لـو اسـتـأذنـت رسـول الله صلى الله عليه وسلم فـي امـرأتـك كـمـا اسـتـأذن هـلال بـن أمـيـة أن تـخـدمـه امـرأتـه .
فـقـلـت : والله لا أسـتـأذن فـيـهـا رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، ومـا يُـدريـنـي مـا يـقـول رسـول الله صلى الله عليه وسلم إذا اسـتـأذنـتـه فـيـهـا وأنـا رجـل شـاب ؟ !!! .
فـلـبـثـت بـعـد ذلـك عـشـر لـيـال ٍ حـتـى كـمـلـت لـنـا خـمـسـون لـيـلـة مـن حـيـن نـهـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم عن كـلامـنـا .
فـلـمـا صـلـيـت الـفـجـر صُـبـْح خـمـسـيـن لـيـلـة وأنـا عـلـى ظـهـر بـيـت مـن بـيـوتـنـا ، فـبـيـنـا أنـا جـالـس عـلـى الـحـال الـتـي ذكـر الله عـز وجـل قـد ضـاقـت عـلـيّ نـفـسـي ، وضـاقـت عـلـيّ الأرض بـمـا رحُـبَـت ( وسِـعَــت ) ، سـمـعـت صـوت صـارخ أوفـى ( أشرف ) عـلـى جـبـل سَـلــْـع .
يـقـــول : بـأعـلـى صـوتـه : يـا كـعـب أبـشـر ، فـخـررت سـاجـدًا وعـرفـت أن قـد جـاء فـرج . وأذِنَ ( أعـلـم ) رسـول الله صلى الله عليه وسلم الـنـاس بـتـوبـة الله عـلـيـنـا حـيـن صَـلـّى صـلاة الـفـجـر . فـذهـب الـنـاس يُـبـشـرونـنـا ، وذهـب قِـبَـلَ صـاحـبـيّ مـبـشـرون ، وركـض رجـل إلـيّ فـارسًـا ، وسـعـى سـاع مـن أسـلـم فـأوفـى عـلـى الـجـبـل فـكـان الـصـوت أسـرع مـن الـفـرس . فـلـمـا جـاءنـي الـذي سـمـعـت صـوتـه يـبـشـرنـي نـزعـت لـه ثــَوْبــَيّ فـكـسـوتـه إيـاهـمـا بـبـشـراه ، ووالله مـا أمـلـك غـيـرهـمـا يـومـئـذ ، واسـتـعـرت ثـوبـيـن فـلـبـسـتـهـمـا ، وانـطـلـقـت إلـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم فـتـلـقـّـانـي الـنـاس فـوجًـا فـوجًـا يـهـنـئـونـنـي بـالـتـوبـة .
يـقـولـون : لـتـهـنـئـك تـوبـة الله عـلـيـك .
فـدخـلـت الـمـسـجـد فـإذا بـرسـول الله صلى الله عليه وسلم جـالـس ومـن حـولـه الـنـاس ، فـقـام إلـيّ طـلـحـة بـن عـبـيـدالله رضي الله عـنـه يـهـرول حـتـى صـافـحـنـي وهـنـّـأنـي . فـلـمـا سـلـّـمـت عـلـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم .
قــــال ووجـهـه يـبـرق مـن الـسـرور : (( أبـشِـر بـخـيـر يـوم مَـرّ عـلـيـك مـنـذ ولـدتـك أمـك )) .
قـلـــت : أمِـن عـنـدك يـا رسـول الله أم مـن عـنـد الله ؟
قـــال : بـل مـن عـنـد الله .
وكـان رسـول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُـرّ اسـتـنـار وجـهـه حـتـى كـأنـه قـطـعـة قـمـر ، وكـنـا نـعـرف ذلـك مـنـه .
فـلـمـا جـلـسـت بـيـن يـديـه قـلــت : يـارسـول الله إن مـن تـوبـتـي أن أنـخـلـع مـن مـالـي صـدقـة إلـى الله وإلـى رسـولـه .
قـــال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : (( أمـسـك عـلـيـك بـعـض مـالـك فـهـو خـيـر لـك )) .
قـلـت : فـإنـي أمـسـك سـهـمـي الـذي بـخـيـبـر .
وقـلـت : يـا رسـول الله إن الله إنـمـا نـجّـانـي بـالـصـدق ، وإن مـن تـوبـتـي ، ألا أحـدث إلا صِـدقــًا مـا بـقـيـت .
فـوالله مـا أعـلـم أحـدًا مـن الـمـسـلـمـيـن أبلاه الله فـي صـدق الـحـديـث مـنـذ ذكـرت ذلـك لـرسـول الله صلى الله عليه وسلم أحـسـن مـمـا أبـلانـي ، ومـا تـعـمـدت إلـى يـومـي هـذا كـذبـًا ، وإنـي لأرجـو أن يـحـفـظـنـي الله فـيـمـا بـقـيـت .
وأنـزل الله عـلـى رسـولـه صلى الله عـلـيـه وسـلـم :
{ لـقـد تـاب الله عـلـى الـنـبـي والـمـهـاجـريـن والأنـصـار .... إلـى قـولـه تـعـالـى : وكـونـوا مـع الـصـادقـيـن ... } . فـوالله مـا انـعـم الله عـلـيّ مـن نـعـمـة قـط بـعـد أن هـدانـي للإسلام أعـظـم مـن نـفـسـي مـن صِـدقـي رسـول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكـون كـذبـتـه فـأهـلـك كـمـا هـلـك الـذيـن كـذبـوا .
فـإن الله تـعـالـى قـال لـلـذيـن كـذبـوا حـيـن أنـزل الـوحـي شـرّ مـا قـال لأحـد ، قـال الله تـعـالـى :
{ سـيـحـلـفـون لـكـم إذا انـقـلـبـتـم إلـيـهـم لـتـعـرضـوا عـنـهـم } إلـى قـولـه تـعـالـى { فـإن الله لا يـرضـى عـن الـقـوم الـفـاسـقـيـن } .
*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*
قـــال كـعـب بـن مـالـك :
وكـان خـُـلـْـفـَـنـا ( تـخـلـّـفــنـا ) أيـهـا الـثـلاثـة ــ عـن أمـر أولـئـك الـذيـن قـبـل مـنـهـم رسـول الله صلى الله عليه وسلم حـيـن حـلـفـوا لـه فـبـايـعـهـم واسـتـغـفـر لـهـم وأرجـأ ( أخــّـرَ ) رسـول الله صلى الله عليه وسلم أمـرنـا حـتـى قـضـى الله فـيـه ، فـبـذلـك قـال الله تـعـالـى :
{ وعـلـى الـثـلاثـة الـذيـن خـُـلِـّـفـوا } .
لـيـس الـذي ذكـر الله مما خـُـلـْـفــَـنـا مـن الـغـزو ، وإنـمـا تـخـلـيـفـه إيّـانـا وإرجـاءه أمـرنـا عـمّـن حـلـف لـرسـول الله صلى الله عليه وسلم ، واعـتـذر إلـيـه فـقـبـل مـنـهـم ( فـعَـذرَهـُم ) .
رواه الـبخاري و مسلم و ابن اسحاق و الإمام احمد .
*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*-----*