للفن أشكال كثير، وهوايات المواطن الفلسطيني تلامس تلك الفنون المختلفة، وكل له طريقته الخاصة التي ترسم عادة ملامح الحياة الفلسطينية الاجتماعية والسياسة
وقد يكون الحصار له تأثيره في تنمية هذه المواهب في جيل الشباب فجميعهم يطبق مواهبه وفنه على حسابه الخاص نظرا لشح التمويل الذي من الممكن أن يدعمهم
اختار ركن من منزله ليكون ورشته الخاصة، وسرح بخياله ليجعل منها ورشة متكاملة ليبدأ خلالها رحلته الفنية في النحت على الخشب وتجسيد ما ترسمه يداه، فكان "بيت الأحلام" أول إبداعاته التي انطلق بعدها ليتميز برسم وصناعة المدن والقلاع الفلسطينية، وأصبح منزله متحفه الخاص الذي زُين بأعماله الخشبية والتي أضفت طابعاً خاصاً عليها لافتةً أنظار كل من يدخل المنزل، فمن رآها لم يكن يتخيل أنها صناعة يدوية من عمل سائد بل عمل جاهز مستورد من الخارج.
الفنان التشكيلي الثلاثيني سائد مصبح اختار من فن النحت على الخشب طريقاً مختلفاً كلياً عن دراسته وعمله، فبدأ دراسته الجامعية متخصصاً بكلية التجارة قسم المحاسبة، ثم عمل مفتشاً في وزارة الصحة، وكان لأوقات الفراغ التي تمر عليه دوراً في جعله يبدع برسوماته ومن ثم تحويلها إلى تحف فنية ملموسة بديعة الصنع، فجلس في الغرفة التي ازدانت بمشغولاته راسماً ابتسامة عريضة على محياه ليبدأ حديثه قائلاً: "أحببت الرسم منذ أن كنت شاباً صغيراً، وبدأت رسوماتي تتطور يوماً بعد يوم فلم أكتف برسم المناظر الطبيعة بل انطلقت بخيالي لرسم المدن الفلسطينية والقلاع"، مضيفاً: "كنت أريد أن أتميز برسوماتي وأصنع شيئاً مختلفاً عن باقي الفنانين فخطر ببالي أن أحول رسوماتي من خطوط على ورق إلى صناعات خشبية يضرب فيها المثل".
"بيت الأحلام" أول لوحة فنية جسدها الفنان الغزي سائد بأدوات بسيطة توفرت لديه، فرسمها ثم بدأ بتفصيلها على الخشب مزيناً بها حائط منزله، فتابع حديثه قائلاً: "الورقة والقلم دائماً بصحبتي أينما ذهبت فبينما كنت أجلس مع عائلتي سرحت بهذا البيت ورسمته ولا أعرف السبب الذي جعلني أترك الجلسة وأذهب لإحضار بعض ألواح الخشب وأبدأ برسم المنزل عليها ومن ثم قصه وتحويله إلى مجسم".
وأضاف: "بعد انتهائي من المجسم عملت على صقله ثم دهنه بلون يعطى بريقاً ولمعاناً للمنزل وفور انتهائي منه وجدته عملاً مميزاً شجعني ورفع من معنوياتي خصوصاً بعد رؤيتي للدهشة والفرح التي رسمت على وجه زوجتي وأطفالي، وأطلقنا عليه بيت الأحلام فكان هو نقطة انطلاقي لمتابعة مثل هذا العمل".
المنشار والمقدح وخشب السويت وكذلك فرد الشمع أدوات باتت جزءًا لا يتجزأ من حياة سائد الفنية، فعلى الرغم من التكلفة العالية لهذه المواد إلا أنه فضل إحضارها على حسابه الخاص واستخدامها داخل ورشته الصغيرة والتي عبارة عن "بلكونة" داخل منزله، وتابع ضاحكاً: "هذه البلكونة خصصتها لي زوجتي ووضعت بها كل ما يلزمني وجعلتها ورشة لعملي أقضي بها جل وقتي وأبتكر صناعات جديدة".
تنوعت مشغولات سائد فما كانت تقع عينه عليه يعمل مباشرة على رسمه ومن ثم تطبيقه على ألواح الخشب، فصنع العديد من السيارات الصغيرة الحجم وصناديق المجوهرات والأشجار الصناعية والنجف الصغير وكذلك البراويز الخشبية ولم ينسى فضل زوجته عليه فصنع لها صندوقاً خشبياً نقش اسمه واسم زوجته "باسمة" عليه اعترافاً بجميلها ووقفتها بجانبه.
"وراء كل رجل عظيم امرأة"، مثل ردده سائد بكل فخر وهو يعترف بفضل زوجته عليه في نجاحه المستمر ووقفتها بجانبه، وقال: "باسمة زوجة رائعة وقفت بجانبي وتحملتني وتحملت ما تسببه نشارة الخشب من فوضى بالمنزل ولكنها رغم ذلك كانت تقول لي دائماً "استمر في إبداعك ولا تهتم بالمنزل فأنا موجودة لأهتم بمنزلي وأحافظ عليه طول الوقت".
واسترسل في حديثه وهو يشير إلى مكاتب صغيرة الحجم يجلس عليها طفليه التوأم رفيق ورجب وصندوق خشبي آخر منقوش عليه "سائد وبسوم" وأضاف: "لم أعرف كيف أكافئ زوجتي على وقفتها معي سوى بصنع هذا الصندوق الذي يحمل اسمينا كما صنعت المكاتب الدراسية للتوأم والتي أسعدت الجميع وزادت من تشجيعهم لي".
أما باسمة فتابعت قول زوجها ضاحكة: "سائد فنان عظيم أحببت عمله لأنه فن جديد بالنسبة لي بالإضافة إلى أنني كلما يخطر ببالي شيء معين من أجل تزيين المنزل أطلبه منه فيصنعه دون تردد فأنا الكسبانة بكل الأحوال".
على الرغم من إبداعات سائد الفنية إلا أن هناك ما بعكر صفو عمله ويمنعه من استمراره في بعض الأحيان فانقطاع التيار الكهربي الذي سبب أزمة كبيرة لدى الغزيين بشكل عام وسائد بشكل خاص كان سبباً في عدم إنجاز الكثير من الأعمال بسبب انقطاع سائد عنها عدة مرات كلما انقطع التيار الكهربي، فأكمل حديثه آسفاً على هذا الحال وقال: "الكهرباء مشكلتي الأساسية والرئيسية لأنها عطلت كثير من أعمالي وجعلتني أمل من متابعتها، فكل الأدوات التي أستخدمها تعمل بالكهرباء وانقطاع التيار يعني انقطاعي عن العمل".
وتابع: "أصعب شي أن تكون منسجماً بتطبيق إحدى لوحاتك وأنت تستخدم المنشار الكهربي وفجأة ودون سابق إنذار قطعت الكهرباء هنا أشعر بأنني أود أن أكسر المكان كله إلا أنني أعود لصوابي متذكراً أن أحلامي كلها موجودة به".
فلسطين هي الأجمل والأروع في عين كل من يقدرها ويعرفها جيداً، وهذه نظرة سائد لوطنه الذي يعشقه ويحاول جاهداً أن يرسم معالمه داخل منزله، إضافة إلى محاولة ربط ولديه بوطنهم من خلال عمل مجسمات لمدن فلسطينية مقاربة للمدن الحقيقية وتعريفهم عليها وزرعها في مخيلتهم، فاسترسل في كلامه: "وطني جميل والأجمل هو ربط أبنائي به وتعريفهم بها ومن أجل ذلك وجدت أن استغلال فن النحت على الخشب في تحويل بلدي إلى مجسمات صغيرة تبقى محفورة في ذهن أبنائي وتربطهم أكثر وأكثر بوطنهم الغالي وسيلة جيدة ومضمونة لمن هم في مثل أعمارهم".
شارك سائد بمعرض فني واحد في مركز رشاد الشوا إلا أن هذا المعرض لم يحقق لسائد ما كان يطمح إليه في أن يرى الناس عمله وتُقبل عليه فعبر عن حزنه قائلاً: "عملنا يحتاج إلى من يقدره ويفهمه لكن الناس في غزة لا تهتم سوى بالأمور الأساسية ولا تهتم بالكماليات ولا أنتقد هذا الشيء إنما أقول أنني كنت أريد أن أرى إقبالاً على المعرض لكن للأسف كان سيء جداً ولم يحقق ما أصبو إليه على الرغم من نظرات الإعجاب لعملي دون السؤال عنه من الفئة القليلة التي حضرت المعرض".
رغم الضيق الذي سببه هذا المعرض لسائد إلا أنه حقق إنجازاً ونجاحا كبيراً عندما حصل على المرتبة الأولى في عمل مجسم لمخيم صيفي في مدرسة الماجدة وسيلة وحصل فيها على المركز الأول مع مرتبة الشرف، وقال: "هذه المسابقة رفعت من معنوياتي وجعلتني أهتم بعملي بشكل أكبر وأن أتحدى الظروف من أجل أن أتطور بفني وحلمي".
سائد كأي فنان له أحلامه وطموحاته التي يتمنى تحقيقها، وأكبر هذه الأحلام صنع سيارة خشبية كبيرة تسير في الشوارع إلا أن الظروف المادية لا زالت تقف عائقاً في طريق تحقيق أحلامه ويأمل أن يجد من يقف بجانبه ويدعمه لتحقيق هذا الحلم، وتابع: "خمسة آلاف دينار هي تكلفة حلمي الذي أتمنى أن أحققه أو أجد من يساعدني على تحقيقه لأن صنع مثل هذه السيارة ستكون عملاً غريباً وحديثاً ولكنه سيجلب أنظار الناس إليه".
وعبر سائد عن أمله في أن يصبح هذا الفن مطلباً لدى كثير من الناس وأن تُحل الخلافات الداخلية وينتهي الحصار الذي يعيق كثير من الفنانين عن الإبداع والتميز والسفر للخارج لعرض مواهبهم على حد قوله.