القرآن الكريم كتاب الله المبين، الذي لا يشبع منه العلماء، ولا يملُّ منه قارئه، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد} (الجن:1). تضمن من اللطائف والدقائق ما لا يحيط به كاتب ولا كتاب.
ومن اللطائف التي تضمنها القرآن الكريم ما جاء في قوله سبحانه: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} (آل عمران:164). فالآية تبين فضل الله على المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم}، أي: من جنسهم العربي؛ لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة، ونعمة الرسالة إنما تحصل في الإبلاغ والإفهام، فالرسول يكلمهم بلسانهم، فيفهمون جميع مقاصده، ويدركون إعجاز القرآن، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم، وهذه المزيَّة ينالها كل من تعلَّم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية.
والمراد بـ { المؤمنين} هنا: المؤمنون يومئذ، وهم الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، بقرينة السياق وهو قوله: { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} أي: من جنس العرب، ومن بلدهم، ونشأ بينهم، يفهمون كلامه بسهولة، ويعرفون حاله بالصدق والأمانة، ولو كان من غير جنسهم، بأن كان ملكاً أو جناً لم يتأنسوا به، ولو كان من غير نسبهم، بأن كان أعجمياً لم يفهموا كلامه بسهولة.
ويفيد التعبير بقوله سبحانه: { من أنفسهم} المماثلة لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سبباً لقوة التواصل والتفاعل، وهي هنا النسب، واللغة، والوطن. والعرب تقول: فلان من بني فلان من أنفسهم، أي: من صميمهم ليس انتسابه إليهم بولاء ولا بادعاء، وهذا وجه إطلاق النفس عليه، التي هي في معنى المماثلة، فكونه من أهل نسبهم - أي كونه عربياً - يوجب أنسهم به، والركون إليه، وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه منهم يعجل لهم التصديق برسالته؛ إذ يكونون قد خبروا أمره، وعلموا فضله، وشاهدوا استقامته ومعجزاته.
ولذلك كان المؤمنون مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة، بحيث إن تلقيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقر الدين.
واللطيفة المهمة في الآية هي قوله تعالى: { من أنفسهم}، حيث جاء هذا التعبير غاية في الروعة؛ لما يدل على القرب والخصوص الحقيقيين؛ لأن قولنا: فلان من أنْفُس المؤمنين، يدل على أنه من خاصتهم، وأنه قريب جداً منهم، لا أنه منتسب إليهم انتساباً. وقد يكون مجازاً مراداً به التشريف.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرب المقربين إلى المؤمنين؛ ولذلك لما كان الحديث غير خاص بالمؤمنين في قوله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} (الجمعة:2)، لم يقل فيها: (من أنفسهم)، وإنما قال: { منهم}؛ لأن الكلام عن العرب عامة، لا عن المؤمنين خاصة.
وقد قال بعض أهل التفسير بهذا الخصوص: "إن قولك: فلان من أنفس القوم، أوقع في القرب والخصوص من قولك: فلان منهم؛ فإن هذا قد يراد للنوعية، فلا يتخلص لتقريب المنزلة والشرف إلا بقرينة، أما قولك: من أنفسهم، فأخصُّ، فلا يفتقر إلى قرينة".
وقد جاء التعبير بهذين الأسلوبين في آيتين أخريين: أولهما: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة:128)؛ إذ لما قصد التعريف بعظم النعمة به صلى الله عليه وسلم على المؤمنين من أمته، وجليل إشفاقه، وحرصه على نجاتهم، ورأفته ورحمته بهم، عبَّر بقوله: { من أنفسكم}.
ثانيهما: قوله عز وجل: { ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه} (النحل:113)، فقد عبَّر بقوله: { منهم}؛ لمَّا كان المدعون على الضد من حال المؤمنين المستجيبين، ولمَّا - على الرغم من إنعامه عليهم - لم يوفَّقوا لمعرفة قدره، ولا للاستجابة لما جاءهم به من السلامة في الدنيا والنجاة في الأخرى.