بسم الله الرحمن الرحيم
ولم لا يكون التَّفَكُّر عبادة وابن عباس يقول: ركعتان مقتصدتان في تَفَكُّر خير من قيام ليلة بلا قلب!
ويقول: تَفَكَّروا في آلاء الله.
ووصفت أم الدرداء زوجها الصحابي الجليل بأن أكثر عبادته التَّفَكُّر.
وفي حديث مرفوع ضعيف، والصحيح من قول الحسن البصري: (تَفَكُّر ساعة خير من قيام ليلة).
نعرف الأشياء معرفة حسيَّة بالمشاهدة واللمس والسماع أولاً.
ثم نتذوق ما فيها من الإبداع الربَّاني والحُسن والجمال والإعجاز المبهر ثانياً.
ثم تفيض معاني الإيمان والخشوع على قلوبنا وجوارحنا؛ مسبحة بحمد الخالق الكبير.
تأملْ سطورَ الكائناتِ فإنها ... من الملأ الأعلى إليكَ رسائلُ
وقد خُطّ فيها لو تأملتَ سطرها ... ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ
وتفضي إلى البصيرة وتمام اليقين، أو "الشهود" كما يسميه ابن تيمية، كما في قصة إبراهيم (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ..) .
التَّفَكُّر هو النظر في المسلَّمات والبناء عليها، وليس كذلك التفكير الذي هو الاستنباط والتحليل.
التَّفَكُّر فعل وجداني أما التفكير فهو فعل عقلي.
التَّفَكُّر استجابة فورية، والتفكير عمل مستديم متدرج متراكم، ولذا قرأ المصطفى -عليه السلام- قوله تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ثم قال: (وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا) رواه ابن حبان.
التَّفَكُّر مفردة قرآنية تكررت في ثمانية عشر موضعاً في الكتاب العزيز، تأمَّلتها فوجدتها لا تخرج عن أحد موضوعات خمسة:
1- التَّفَكُّر في الخلق كما في آية آل عمران السابقة؛ في الكون، والإنسان، والحيوان، والنبات. وسورة النحل طافحة بذلك وهي التي تسمى (سورة النِّعَم)، ومثلها سورة لقمان.
إن ملاحظة الإعجاز في عملية الخلق من عدم، وبث الحياة في الجماد الموات ليَنْتَفِض ويتحرك ويحس؛ لهو من أعظم دلالات الربوبية.
والإقبال على هذا اللون من التَّفَكُّر الإيجابي يُرسِّخ الإيمان، ويصرف الطاقة العقلية عن التفكير الطويل في المعضلات، وما يحار العقل فيه ويعجز عن دركه.
بعض الشباب يُمعِن في التساؤل عن العلَّة وراء العذابات، والمصائب، واختلالات الحياة.. ولو تَفَكَّر في الكون والنفس وغاص وراء الأسرار لهدأت ثائرة الشكوك، وصار يتقبل بعض الإجابات التي كان يرفضها من قبل.
2- التَّفَكُّر في الأمثال (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )، وقد شبَّه الله الحياة الدنيا بالمطر واختلاط نبات الأرض به: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، ومن ذلك القصص فهي في مساق الأمثال والعِبَر والدروس الحياتية؛ التي تقاس نتائجها ومحصلاتها وعواقبها، فهي قياس مجهول على معلوم.
3- التَّفَكُّر في الوحي؛ وخاصة القرآن، وهو التَّدبُّر، والوقوف عند المعنى، وعرض النفس عليه، ومطالبتها بالتَّرَقِّي، كما في قوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، التَّفَكُّر في الوحي يُرسِّخ الإيمان، ويجعل القارئ يسمع كلام الله وخطابه وحديثه إلى رسله وأنبيائه وسائر عباده، في الدنيا وفي الآخرة، بأسلوب معجز، وبيان مبهر، وروحانية آسرة.
والوحي نفسه دعوة إلى التَّفَكُّر، وإعمال العقل والوجدان في التفاعل مع السياق، وفي كشف مجاهل الكون وآفاقه وأسراره.. إنه دين يُحرِّض على التفكير، ولا يخاف من العقل.
4- التَّفَكُّر في المواقف التي يتخذها الإنسان، والألفاظ التي يُطلقها دون رويَّة أو تأمُّل أو تَحَكُّم، وتمثل تقليداً أو إرثاً غير ممحَّص، أو يفعلها المرء بتشجيع وتصفيق ممن حوله ينسيه ذاته، ولذا قال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) ، الموعظة في نظر البعض تخدير وإلهاء، بينما هي هنا دعوة إلى التَّعقُّل والفهم والاستيعاب والنظر المتعقِّل في الجديد.
مَثْنَى وَفُرَادَى!
أما الواحد فيخلو بنفسه بعيداً عن الضجيج والصياح؛ ليدرك الحقائق بهدوء، وأما الاثنان فقد يكونان خلصاء أصفياء متصارحين، وكأنهم نفس واحدة، يبوح أحدهم للآخر بكل تطلعاته وتساؤلاته وأفكاره الجازمة والمترددة، فبينهما انسجام وتمازج ينتج عنه تعاون وتساعد..كما في قصة أصحاب الكهف؛ الذين تعارفوا أول أمرهم مثنى مثنى، ثم اتسعت دائرتهم.
والإنسان عادة مولع بتكرار مواقفه واستنساخها دون تردد؛ لأنه تبرمج معها، وبنى علاقاته عليها، وهي لا تحتاج إلى تفكير جديد، وهذا يحرمه من فرص عظيمة وتجارب غنية.
5- التَّفَكُّر في المصالح والمفاسد، وترجيح بعضها على بعض، وهو لون من النظر والتَّعقُّل؛ يدرك منه المرء بقدر سعة عقله، وامتداد تجربته، وانعتاقه من الضغوط السياسية والاجتماعية.
ومن دقيق فقه المصالح معرفة خير الخيرين، وشر الشرين؛ وهذا ظاهر في قوله سبحانه: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)
والمماسَّة الواقعية لفرز المصلحة والمفسدة ترتبك حين تتحول إلى جدل وخصام؛ لأنها تتجه نحو الإفحام؛ لكسب الموقف ودحر المناوئ.
التَّفَكُّر الرشيد يُورث حكمة يرويها ابن المبارك فيقول: مرَّ رجل براهب عند مقبرة ومزبلة، فقال: عندك كنزان من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر؛ كنز الرجال، وكنز الأموال!.
ويصنع وعياً ويقظة يحكيها أبو سليمان الداراني فيقول: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت عليّ فيه نعمة ولي فيه عبرة!
التَّفَكُّر يمنح النفس هدوءاً وطمأنينة من داخلها لا تهزه المؤثرات ولا تقلقه الجلبة.
ويُربِّي على مكارم الأخلاق؛ الحلم، والصبر، وكظم الغيظ، والتجاوز، والصفح.. إنه يفكر في الحالة الوجدانية الراهنة التي يعيشها، ويراقب أداءه، ويسيطر على انفعالاته، ويعزز الثقة بالنفس، ويوسع دائرة المعرفة، ويشجع على حسن توظيفها لتكوين معرفة جديدة.
وهو من أسباب تكريس الصحة النفسية، وتبعاً لذلك الصحة البدنية، ويحق لنا أن نقلب المثل الشائع ونقول: الجسم السليم في العقل السليم!