يستمر العالم المتمدن حديثاً ، تجاهل الإنتاج العقلي للتجربة الإنسانية ، في مجال التفاهم وإرساء المفاهيم المشتركة بين البشر، لأن المعنى من وجوده لم تعد غائبة عن ذاتيته المتكونة من خلال هذا التفاعل الوجداني بين حب الإنسان للمعرفة وحب الإنسان للتعارف والعيش المشترك .
ومازال القانون الإلهي يخلق سلوكية منفصلة وطبيعة ذاتية مغايرة جوهرياً ومعادية حياتنا لوعي الثقافات على اختلاف أنواعها ، والمتشكلة في ظروف غائية ومصالح متباينة وفوقية ومترافقة مع العوز والرفاه المادي .
غير أن الماهية واحدة في ذاتها تحدد العلاقة بين الواقع ومحيطه والعالم الكوني الواسع . ولتكون دراستنا ذات مفهوم مرغوب ومعبر عن كل الثقافات ، عليها أن تدرك غائية الحقيقة في وجودها القابل للانتشار على المستوى الإنساني لأن ما يعيق التفاعل هو قدرة الإنسان على الانغلاق والاكتفاء بالعزلة القائمة على وجود متكون على أساس توجيه نفعي يرى في وجوده المنعزل ضالته الكبرى . ولأنه قائم على الاكتفاء المتواجد لحاجاته البسيطة ،وتعميق التفاعلات الوهمية مع قدرته ضائعة يمكن صياغة محتواها في أي اتجاه محافظ ومنعزل ، وليست بحاجة إلى الكينونة البشرية في صيغتها الكلية ، فهي الأسلوب المحافظ على نمطية معرفية وسلوكية تدرك غايتها المحدودة والمحددة على قواعد من الانعزال تحقق من خلاله تفردها الثقافي وأسلوب العلاقة الداخلية بين أفرادها بشكل يعارض كل المدركات الحسية والمعرفية للوجود المتوسع على أساس طاقة الإبداع الخلاق . كل تكوين حضاري في هذا العالم يريد أن يعمم الفائدة على وجوده ويسعى لإظهار ذاتيته كقوة متفوقة على غيره يحقق من خلالها استقراراً متمايزاً وحركة واسعة ، قادرة على الاستقطاب والتعامل مع معكوساتها بتفوق يجعلها رمزاً للتفرد وهدفاً لعدائية الانهزام من وجودها . فلو قرأنا التكوين الحضاري لأي حضارة على أساس المتابعة لمجمل ظروفها العامة وخصائصها الداخلية والخارجية كتشكيل مرافق لهذا التكون دون الاعتماد على نتائجها كأهداف لكان فهمنا أعمق لما يجري من تتابع في حركة العالم نحو تحقيق النفوذ وقدرة السيطرة الهائلة وإشعال حرائق الحروب .
هنا في عالمنا العربي ليس الهدف تعميق ما هو مفيد بل ما يحقق الانتفاع بالثروة وتمايز الظهور وتحديد المحطة الأساسية لاستراحة التاريخ لمفاهيم هي دائماً تولّد نفسها .
فكم نشأت في العالم العربي غايات لها ممرات خاصة تسير من خلالها ، وتعمق ذاتها من خلال ثقافات وتطورات وصلت إلى حدود الطلاسم ، لأجل تأمين السيادة وتحجيم المناهضين لحركتها والهادفين لكسب
من الوقت للاستمتاع بالتفوق ليكون استمرار اً في الزمن على أنه الأفضل ، فهل من حضارة قامت وهي تعرف أن حقيقتها وكل مكوناتها قد تتبدل ، لو كان هذا الإدراك موجوداً لما نشأ التعصب ولم ينشأ في التاريخ مزيداً من الخلافات ، لقد احتوى التاريخ كومات من الأفكار المجمدة وكومات من الأفكار المنشطة للسلوك المنحرف للإنسان لأن كل الغايات في طبيعتها كانت خاطئة . فالإنسان الوارث لماضيه لا يعرف غير الأحقاد ولا يتحقق في ذاته غير العدوان ، إنه ينجرف مع أوهام التكوين وينصب نفسه بأنه الوريث الوحيد والشرعي لمفاهيم الله . وهذا ما يخلق التقلقل والأنانية في طبيعة الاعتقاد ، فكل العقائد هي نواميس لحب الله .
وكل القنوات تصب في الذات الكلية للكون ، والحرية هي اثمن شيء يمكن أن نختاره في التعبير عن مشاعرنا للاتحاد مع الذات الكونية ، وليس ما هو أغلى على الله من أن كل إنسان يعرف طريقاً مختلفاً لمعرفة قدرته ، فإذا كان الله هو الكينونة الكلية للوجود ، عندها يمكن لأي نشاط خلاق هو أحد الفروع من هذه الكينونة وفي طبيعته سراً من أسرارها . ومهما اتخذ النشاط العلمي أبحاثاً مخالفة لطبيعة العقائد الدينية يبقى في جوهرة أسلوباً وسراً من أسرار الذات الكونية اللامتناهية .
فعملية إقفال المعرفة عند حد معين تمثل صورة العجز والهروب نحو الكسل في طبيعة الإنسان ، وليس الاتجاه نحو منع الاكتشافات العلمية والبحوث الجارية في أي حقل من حقول العلم المختلفة إلا تعبيراً عن عجز المقولات الأخلاقية عن التطور المرافق لهذه الاكتشافات ، وإن معرفة الحلال لا يمكن أن تكون نابعة من معرفة الحرام لأن كل معرفة لها اتجاهها الخاص وقوانينها الداخلية المعبرة عن صحتها .
فكل شيء يتطور مع قيمته وكل معرفة تظهر مع أهميتها ، وليس في العالم ما هو أبشع من الهدم والتخريب وإشاعة الكراهية والأحقاد ، وليس من يكثر من الصلاة أفضل ممن يكثر التفكير في مشاكل هذا الكون وليس من يمنع العلم عن النساء أفضل من شيطان يريد نشر الشر وإشاعة الخوف الدائم عند الإنسان وغلق كل باب مفتوح على العلم والمعرفة ، لقد آن الأوان لمعرفة الحقيقة الأساسية بأن التطور المستمر هو الأسلوب الوحيد لمعرفة قدرة الله ، وإن سعادة العالم تأتي مع الإقرار بأن كل معرفة إنسانية هي كنز من كنوز الله وإن الإنسان لا يمكن أن يكون محباً عندما لا يعترف بأن غيره يمتلك ثقافة لا تقل أهمية عن
ثقافته ، توصل إليها بعد مجهود شاق ويمكن أن تفيد الإنسانية بمقدار حبها للإنسانية .