Hisham AbuGhazi .: الإدارة :.
التسجيل : 20/09/2012 المشاركات : 1491 الاقامة : غزة المهنة : طالب جامعي | |
| التناقض سمة لا تكاد تنفك عنها معرفتنا الإنسانية عبر مسيرتها في طريق التقدم والتطور، وشاهد ذلك سلوكنا الفكري نفسه، فنحن اليوم نختلف عنا بالأمس.. ونحن غداً غيرنا اليوم، أفكارنا غير أفكارنا ومفاهيمنا غير مفاهيمنا! وقبل أربعة عشر قرناً من الزمان قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة فنزل فيما نزل منه قول الحق تبارك وتعالى: }أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا{ النساء:82، أي أفلا يتأملون ويتفكرون في القرآن ولو كان مصدره غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وقد ذكر المفسرون أن "الاختلاف" الذي لا يمكن أن نجده في القرآن هو التضاد بين آياته فيما بينها ومناقضة بعضها البعض، أو أنه مناقضة القرآن للوقائع المعلومة والحقائق المقررة. ومعنى ذلك أن أي معرفة إنسانية المصدر مهما تقدمت وتطورت فسيلازمها الاختلاف الكثير المشار إليه في الآية الكريمة، وذلك لكونها (من عند غير الله). ومن نافلة القول أن نشير إلى وضوح هذه الحقيقة فيما يسمى ب"العلوم الإنسانية" كالآداب وعلوم الاجتماع والنفس والفلسفة والتاريخ فإن الاختلافات بين المدارس التي تقوم عليها هذه العلوم لا تكاد أن تحصى. ومن المعلوم أن كل اختلاف في أصول هذه العلوم ومقدماتها يقود إلى اختلاف أكبر في فروعها وبالتالي في نتائجها ومقرراتها. بل إن ذلك ينطبق أيضاً على العلوم الشرعية التي تخضع للذهن البشري كالفقه مثلاً فإن الاختلافات بين الفقهاء لا تكاد أن تنحصر نظراً لتفاوت العقول والأفهام، فكيف إذاً يكون شأن غيرهم من المفكرين الذين لا يسلمون من اختلافات العقول والأهواء على حد سواء. يبقى لدينا المسألة التي ربما بدت أكثر خفاءً، والتي تتعلق بالمعرفة التي يقدمها لنا "العلم Science" بوصفه درة تاج المعرفة الإنسانية وفخرها.. هل هناك "اختلاف كثير" فيما تقدمه لنا المعرفة "العلمية" بوصفها معرفة بشرية في نهاية المطاف؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نوفق بين التقدم العلمي الذي نراه وبين طبيعة التناقض الذي تقتضيه المعرفة البشرية؟ هذا ما سوف نحاول أن نلقي الضوء عليه في هذه المقالة من خلال رؤية جديدة للتقدم العلمي تستلهم نصوص القرآن ونظرة الإسلام للكون والوجود.
قبل أن نشرع في موضوعنا يحسن بنا أن نعود إلى لفظ في الآية الكريمة التي افتتحنا بها المقال وهو قوله تعالى "يتدبرون" ومعنى تدبر الأمر: نظر في عاقبته ونهايته، ولا يخفى البعد الزمني لهذا المعنى حيث إن نهاية الأمر وعاقبته "تتخلف" عن بدايته ومقدمته. ومن هنا يمكن استنباط أن الاختلاف الكثير المشار إليه في الآية ربما أمكن إدراكه في "سياق زمني" يجعل ما هو "من عند غير الله" من المعارف غير صامد على امتداد الزمن بل عرضة للتغيير والتبديل، هذا إضافة إلى المعنى المتبادر للاختلاف والذي يمكن إدراكه دون الحاجة إلى السياق الزمني كما في العلوم الإنسانية التي أشرنا إليها في بداية الحديث. فلا بد لنا إذاً من النظر في فلسفة تطور "العلم" باعتبار المعرفة التي قدمها لنا العلم عبر القرون الماضية هي الشيء الذي نريد عرضه على سنة "الاختلاف الكثير" في هذه المقالة.
كيف يتقدم العلم؟!
نعرض هنا نماذج من آراء فلاسفة القرن العشرين في مسألة التقدم العلمي وذلك في إيجاز شديد قد لا يسلم من إخلال غير متعمد، يضطرنا إليه ضيق المساحة من جهة وكوننا لا نهدف من هذا العرض إلى استقصاء آراء الفلاسفة في هذه المسألة، إذ غرضنا أن نبين الاختلاف الجذري بين الرؤية الإسلامية المقترحة وبين غيرها من أطروحات الفلسفة الغربية.
يرى كارناب والذي يمثل اتجاه "التجربية المنطقية" التي تعتمد الاستقراء أسلوباً للوصول إلى الحقيقة العلمية، بأن التطور العلمي إنما يتم عن طريق "تأييد" المشاهدة المستقاة من التجربة للنظرية المقترحة من العقل وكلما ظهرت نتائج جديدة لتجارب مختلفة حول نظرية ما كلما تأيدت صدقية هذه النظرية وعلى ذلك فالتقدم إنما يتم بتراكم المعرفة شيئا فشئياً الأمر الذي يستشهد فيه عادة بمقولة إسحاق نيوتن الشهيرة: "إنني لم أستطع أن أرى أبعد من الآخرين إلا عندما صعدت على أكتاف من سبقوني".ورغم الجهد الذي بذله كارناب في تنقيح وتعديل "التجريبية المنطقية" لإنقاذها من النقد الشديد الذي وجه إليها، إلا أنها لم تستطع أن تحافظ على بريقها القديم فنشأت بعدها تيارات فلسفية أخرى، كان من أشدها عليها المنهج التكذيبي الذي تبناه كارل بوبر.
|
|