لماذا قدمت الآيات السمع على البصر والفؤاد؟
أ- جهاز السمع يتطور جنينياً قبل جهاز البصر ويتكامل وينضج حتى يصل حجمه في الشهر الخامس من حياة الجنين الحجم الطبيعي له عند البالغين بينما لا يتكامل نضوج العينين إلا عند السنة العاشرة من العمر.
ب- يبدأ الجنين بسماع الأصوات في رحم أمه وهو في الشهر الخامس من حياته الجنينية ولكنه لا يبصر النور والصور إلا بعد ولادته.
ج- تتطور وتنضج كل المناطق والطرق السمعية العصبية قبل تطور ونضوج مثيلاتها البصرية بفترة طويلة نسبياً.
5- من خلال الآيات الكريمة التي ذكرناها في أول البحث لاحظنا تقدم العين على الأذن, ورأينا في المقابل أن السمع يتقدم على البصر, وهذا يتناسب مع تقدم العين على الأذن في رأس الإنسان, وكشف العلم الحديث عن حقيقة تتناسب مع تقدم السمع على البصر, وهي أن مركز السمع يتقدم مركز الإبصار في مخ الإنسان تشريحياً؛ وهنا ظهرت المعجزة العلمية الباهرة فالترتيب المكاني للسمع والبصر في الآيات يأتي وفقاً للترتيب المكاني لمراكز السمع والبصر في مخ الإنسان.
6- من المعروف فسيولوجياً أن المرء يفقد حس البصر قبل فقدانه حس السمع عند بدء النوم أو التخدير (التبنج) أو عند الاحتضار قبيل الموت أو عند هبوط ضغط الأوكسجين في الهواء -كما يحصل مثلاً عند الصعود إلى المناطق الجبلية العليا أو عند الطيران في الأجواء العليا- أو عند فقر دم الدماغ -كما يحصل للصائم مثلاً إن ملأ معدته بغذاء وفير وبسرعة كبيرة أو عند النهوض السريع والمفاجئ من وضع الاستلقاء- ففي كل هذه الحالات لا يفقد حس السمع إلا بعد فقدان حس البصر بفترة قصيرة.
7- تأثير السرعة والارتفاع على السمع والبصر: يولد التسارع أو التعجيل الشديد عند الطيارين أو عند رواد الفضاء أثناء الطيران والارتفاع السريع تجاذباً موجباً يؤثر على البصر ويسبب ضباب الرؤية قبل فقدانها تماماً والإصابة بالعتمة التامة، ولا يفقد الطيار في هذه الأحوال حس السمع كله بل يبقى جزء كبير منه لفترة تالية تبقيه باتصال صوتي مع المحطات الأرضية.(18)
8- يتمكن الإنسان من سماع الأصوات التي تصل إلى أذنيه من كل الاتجاهات والارتفاعات فيمكننا القول: إن الساحة السمعية هي 360، بينما لو ثبت الإنسان رأسه في موضع واحد فلن يتمكن من رؤية الأجسام إلا في ساحة بصرية محدودة تقارب الـ 180 في المستوى الأفقي و 145 في الاتجاه العمودي, أما ساحة إبصاره للألوان فهي أقل من ذلك كثيراً، كما أن أشعة الضوء تسير بخط مستقيم دائماً فإذا اعترضها جسم غير شفاف فلن تتمكن من عبوره أو المرور حوله ولكن الموجات الصوتية تسير في كل الاتجاهات ويمكنها أن تلف حول الزوايا وعبر الأجسام التي تصادفها فهي تنتقل عبر السوائل والأجسام بسهولة فيسمعها الإنسان حتى عبر الجدران.
9- تأثير إصابة الدماغ على السمع والبصر: من المهم ملاحظة أن حس السمع لكل أذن يتمثل في جهتي المخ فإذا أصيب أحد نصفي الدماغ بمرض ما فلن يفقد المصاب السمع في أي من أذنيه، أما في حالة البصر فيتمثل كل نصف من نصفي العين الواحدة على جهة المخ المعاكسة لها فإذا ما أصيب الدماغ بمرض في أحد نصفيه فقد المصاب البصر في نصفي عينيه المعاكسين لجهة الإصابة.(19)
10- ومن المعلوم أن المولود الذي يولد فاقداً لحس السمع يصبح أبكماً بالإضافة إلى صممه ولن يتمكن من تعلم النطق والكلام, أما الذي يولد فاقداً لحس البصر فإنه يتمكن من تعلم النطق وبسهولة, والسر في ذلك هو أن الأطفال عندما يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعرفون شيئاً عن الكلام بل يتعلمونه في السنوات الأولى من أعمارهم عن طريق المحاكاة، فهم يقلدون الأصوات التي يسمعونها ممن حولهم وشيئاً فشيئاً يستطيعون النطق ببعض الألفاظ البسيطة أولاً، ثم الألفاظ المعقدة بعد ذلك، وهكذا تدريجياً إلى أن يصبحوا قادرين على الكلام كغيرهم من بني الإنسان.
وهذه العملية لا يمكن حدوثها على الإطلاق ما لم يكونوا قادرين على سماع الأصوات التي تتردد حولهم. وبمعنى آخر فإنهم لا يستطيعون الكلام ما لم يكونوا متمتعين بحاسة السمع. وهذا هو السبب في أن الطفل الذي يولد وهو مصاب بالصمم يصبح بعد ذلك أبكماً لا يتكلم في مستقبل حياته.(20)
11- عند فقدان حس البصر تقوم المنطقة البصرية المخية بوظائف ارتباطية فترتبط وظيفياً مع المناطق الارتباطية الدماغية الأخرى فتزيد من قابلية الدماغ على حفظ المعلومات والذاكرة والذكاء، ولا تقوم المناطق السمعية -لسبب غير معروف- بمثل هذا الارتباط عند فقدان حس السمع، ولذلك فقد نبغ الكثيرون ممن فقدوا حس البصر، ولم ينبغ أحد ممن فقد حس السمع إلا نادراً مما يدل على أهمية حس السمع والمبالغة في تخصص مناطقه المخية.
12- أما عن كثرة المعلومات البصرية التي ترد الجسم بالنسبة للمعلومات السمعية القليلة نسبياً التي تصل إليه فلا بد من أن نعرف أن كثرة المعلومات لا تعني دائماً أنها تولد إدراكاً ومفاهيم أكثر وأعمق في دماغ الإنسان مما تولده المعلومات السمعية على قلتها، فالذاكرة السمعية أرسخ من الذاكرة البصرية، والرموز الصوتية تعطي مدلولات ومفاهيم أكثر من الرموز الضوئية، فمن المعلوم مثلاً أن نطق الكلمة الواحدة بلهجات ونغمات متباينة تنقل للسامع مفاهيم مختلفة، ولو كتبنا الكلمة نفسها بمختلف الصور الخطية لنقلت دائماً لقارئها مفهوماً واحداً لا غير، ومن المعلوم جيداً أن الأفلام الصامتـة لا توصل من المعلومات إلا جزءاً يسيراً مما يمكن أن تنقله الأفـلام الناطقـة.(21)
13- مما كشفه العلم الحديث أن الأذن الداخلية تحتوي -بالإضافة إلى القوقعة- على جهاز أخر على جانب كبير من الأهمية وهو (جهاز التوازن), ويتركب من ثلاث قنوات هلالية الشكل، تمتد متعامدة مع بعضها البعض، وعن طريق هذه القنوات يستطيع الإنسان الاحتفاظ بتوازن الجسم، ويؤدى حدوث أي اختلال في هذا الجهاز إلى إصابة الإنسان بالدوار, كما أنه يصبح غير قادر على الاحتفاظ بتوازنه عند الوقوف أو المشي مما يجعله يترنح ذات اليمين وذات الشمال كما لو كان سكيراً أو أفرط في الشراب. وقد يحدث في حالات كثيرة - عند ركوب البواخر أو الطائرات أو السيارات لمسافات طويلة وفي طرق غير ممهدة- أن يؤدى اهتزاز الجسم بصورة مستمرة إلى التأثير على جهاز التوازن وينتج عن ذلك ما يعرف بـ (دوار البحر) أو (دوار الطائرات) أو السيارات, مما يدل على أن الأذن تقوم بوظيفة التوازن بالإضافة إلى قيامها بوظيفة السمع.(22) فتكون الأذن مسئولة عن السمع والتوازن, أما العين فهي مسئولة عن البصر فقط.
وجه الإعجاز:
هذه الحقائق العلمية المتعددة والتي تثبت أن للسمع ميزات كثيرة تفوق تلك الميزات التي يتميز بها البصر لم تكن معروفة قبل أربعة عشر قرناً، ولم يعرف الكثير منها إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين, على أيدي علماء متخصصين بذلوا في سبيل الوصول إليها أعماراً طويلة, واستخدموا أحدث الوسائل العلمية وأدقها.