تعد السلطة الوالدية هى البوابة الأولى فى حياة الطفل والتي من خلالها تتكون شخصيته من طبيعة العلاقة بتلك السلطة، فإذا كانت قاهرة فإنها تؤثر على الابن بطريقة تدفعه للتصرف مع العالم، إما بنفس الطريقة وهى التعصب وعدم قبول الآخر واحترامه أو أن يصبح شخصا مترددا خائفا يتعامل مع العالم بطريقة مليئة بالخوف منه، وإذا كانت السلطة الوالدية ضعيفة فإنها تصدر للمجتمع أشخاصا متسيبين وعرضة للانحراف فضلا عن شخصياتهم التى ستتسم بالضعف وعدم القدرة على التواصل الصحي مع المجتمع.
لا شك أن شخصية الأب والأم وصورتيهما تحددان بشكل كبير شخصية أبنائهما ومن ثم تتعرض هذه الدراسة لكيفية تكوين تلك الصورة فى وعي وخيال الطفل وكيف يطبع ذلك على شخصيته وأثر ذلك على المجتمع.
1-في فهم المعاني:
يقصد
بالصورة الوالدية
هو ما يرسمه الطفل فى خياله عن الأب والأم نتاج التعامل المباشر بينهم أو عن طريق الاحتياجات المفقودة التي يحتاجها الطفل في أبويه ولا يجدها وسواء كانت تلك الاحتياجات موجودة ومشبعة أو غير موجودة فإنها تكون صورة عن الأب والأم فى خيال الطفل وتؤثر بشكل مباشر على شخصيته ولعل تلك القصة تبدأ مع بداية الحياة حتى الطفل مع أيامه الأولى فإنه أيضا يكّون هذا الانطباع فى الرضاعة حيث يشير بعض العلماء إلى أن الطفل يكّون انطباعات عن الأم مع بداية إدراكه لفكرة الزمان والمكان وهو فى شهوره الأولى ولكن كيف؟
إن أول ألم يختبره الإنسان فى بدايات حياته هو ألم الجوع. والأم هى أول شخصية تدخل في حياة الابن عن طريق إشباع ذلك الجوع. والطفل يدرك أن الأم التى تحمل له إشباع ذلك الجوع عبر مواعيد منظمة هي أم طيبة وتدعم ثقة الطفل أنه كلما يبكي من ألم الجوع ستكون هناك أم طيبة تطعمه وتحنو عليه ومن هنا يكّون الطفل أول مفهوم للزمن وإدراكه لذلك الزمن المرتبط لديه بالرضاعة.
أما الأم غير الطيبة (بمفهوم الطفل) فهي تلك التي تهمل مواعيد إشباع الطفل وتترك ابنها من غير أن ترضعه لفترات طويلة نسبيا ومن هنا يصبح هناك أزمة سماها علماء النفس (كالعالم أريكسون) بأزمة الثقة فالطفل الأخير هذا دخل فى تلك الأزمة لعدم ثقته بأن الألم، كلما مرّ بتجربة الجوع تلك سيجد من يساعده ويشبع جوعه الذي لا يعرف أن يعبر عنه سوى بالصراخ والبكاء.
والحقيقة المؤكدة علميا أن مطالب النمو هذه إذا اجتازها الطفل بمساعدة الوالدين من غير قهر أو تسيب فإنه تدعم صورتيهما لديه لأنهما بوابة الصح والخطأ أمام كل المؤسسات التربوية في المجتمع في مراحل نموه الأولى إلى ما قبل المدرسة.
الشخصية
باختصار شديد
الشخصية هي مجموعة الأفكار والسلوكات والانفعالات وأسلوب التعامل مع الآخرين، التي تميز كل شخص عن الآخر
. ونلاحظ من هذا المعنى أن الشخصية هى توجه من الفرد ناحية البيئة وهذا التوجه تم إنشاؤه في البيئة ذاتها وما نعنيه هنا فى المقال هو أثر إدراك الطفل لصورة والديه على سلوكه مع المجتمع وعلى شخصيته التى سيواجه المجتمع بها فقد يكون مبدعا وعالميا وقد يكون عدائيا وسواء أكان هذا أو ذاك فإن الوالدين هما اللبنة الأولى فى هذا البناء المبدع أو العدائي.
2-الغياب فى مقابل التواجد
قد يكون الأب مشغولا بالعمل طول الوقت والساعات القليلة التي يرى فيها ابنه مهمة جدا لنمو الطفل فإذا كان وجود الأب مرتبطا دوما بالصراخ وإعطاء الأوامر فمن غير المتوقع أن يكون هناك رابطة عاطفية بين الأب والابن سوى فى ما يستفيده الابن من نقود وبعض المكافآت غير المجدية التى يحاول الأب تعويضه بها.
منذ سنوات حضرت مهرجان الأفلام التسجيلية فى أبو ظبي وشاهدت فيلما مؤثرا عن ولد يريد الجلوس مع أبيه لكن الأب دائما مشغول فهو فى الصباح يعمل وفى المساء يكون جالسا على الكمبيوتر المحمول يكمل عمله وفى مرة طلب الابن من الأب أن يجلس ساعة واحدة معه لكن الأب قال له هل تعلم هذه الساعة كم تكلفنى فقال الابن كم؟
قال أبوه تكلفني 100 جنيه فذهب الولد وبعد بضعة أيام لاحظ الأب أن ابنه لا ينفق النقود التي يعطيها له كما أنه يطلب أموالا زائدة وبعد يومين وبينما هو منهمك فى الكتابة على الكمبيوتر جاءه ابنه ووضع أمامه 100 جنيه وقال له هيا يا أبى اجلس معى ساعة!!
الفيلم برمزيته يشير إلى الجلوس مع الأبناء والتواجد معهم شأنه شأن العمل فهذا من أجل إطعام الأبناء وهذا أيضا من أجل تلبية احتياجاتهم النفسية في الإحساس بالأمان فى كنف الأب.
ولنسأل سؤالا، كيف يرى هذا الطفل أباه؟
المؤكد أن الأب سيكون غائبا عن مشهد الابن وهذا الغياب يؤثر نفسيا وعاطفيا في الطفل أما غياب الأم لانشغالها بالعمل فيكون له تأثير مضاعف على الابن وليس معنى ذلك أن يجلس الأب والأم عن العمل ويجلسان مع أولادهما لكن القيمة فى التواجد الفعال معهما فقد تكون ساعة واحدة فى اليوم أفضل من التواجد مع الأبناء طوال اليوم ومن ثم المشكلة في الإنطباع الذي يتكون فى خيال الطفل.
3-العنف فى مقابل الضعف:
الأب العنيف والعصبى لا يستطيع أن يقيم حوارا صحيا مع طفله والأم التى تكثر من الصراخ على أطفالها من الصعب أن تسمح لهم بأن يعبروا عن أنفسهم خير تعبير وصحيح أننا جميعا ما نصرخ أحيانا في أطفالنا لكن على الدوام لا يتمكن الطفل من التعبير الصادق عن رغباته ومخاوفه وتساؤلاته.
إن الصورة التى سيأخذها عنا فلذات أكبادنا هو أنهم لن يتمكنوا من التواصل معنا، وأنه سيكون غير مجد ولذا ربما يميلون إلى تجاهل الكلام معنا ويخافون منا ويكذبون ليتجنبوا صوتنا المرتفع.
فى أثناء عملي كثيرا ما كان الأطفال والمراهقون يصرحون لي بتصورهم حول أمهاتهم بأنهم يحبون كثيرا إخبارالآباء بمشاكلهم ويعملون على تصعيدها وسرعان ما يتفقا على الصياح في وجوههم وتلك الصورة تحتاج منا إلى تحليل.
أصبح الأب هو الشخص العصبي الذي ما يصرخ فى أولاده ويصيبهم بالخوف اما الأم فهي التي سهلت ذلك الأمر وطبعا لا بد أن نعي أن تصورات المراهقين والأطفال عنا كثيرا ما تكون غير ناضجة، يشوبها الخلط وعدم الموضوعية لكنها حقائق موجودة فى عقولهم.
أما الأب الضعيف فهو لا يتخذ موقفا من سلوكيات أولاده ويميل إلى تجاهلها وعدم التعاطي معها باعتبارها مشكلات لابد وأن يتجاوزها وكذلك الأم التي لا ترى المشكلات القوية والاحتياجات الضرورية لأبنائها وتتعامل معها وكأنها شىء غير موجود.
مثل هذه الصورة تشجع على التسيب والانحراف فطالما أمن الأبناء من المحاسبة لم يهتموا كثيرا لأنفسهم ولا بغيرهم وعدم وجود الضابط يساعد بكل تأكيد على الخروج عن النص.
4-الرسائل المتناقضة:
إن عدم وجود منهج ثابت في التعامل مع الأطفال يدفعهم إلى تكوين صورة غير ثابتة ومشوشة عن آبائهم وأمهاتهم وفكرة الصواب والخطأ فكرة لا يعرفها الطفل من ذاته وإنما يعرفها منا نحن الكبار ومن ثم فالأب الذي يعاقب ولده على تصرف لمجرد أن الأب كان عصبيا وقتها وفى مرة أخرى لا يعاقب على نفس السلوك بل وربما يضحك فهذا من أكبر الأخطاء التى قد نمارسها ولعل وجود مستوى ثابت من الإجراءات التربوية التى يعرف الطفل مسبقا بها وعن عواقب سلوكاته سواء إيجابية أو سلبية أو على الأقل يشعر بالأمان حتى مع عقابه فهذا يصنع صورة فيها الاحترام والمحبة فى آن واحد.
أحيانا يقول الأب لن تلعب الكرة اليوم بسبب علاماتك ويذهب الطفل يبكي لأمه فتساعده الأم وتأخذه إلى الملعب بنفسها وهذا تناقض فى الرسالة الموجهة من الوالدين لأنه بعد ذلك سيستطيع
الطفل أن يلعب على هذا الوتر وهذا التناقض سيكون مخرجا له ليلبي رغباته التي لا يرضى عنها أحدهما ويوافق عليها الآخر.
الرسالة الواحدة تكون أكثر فائدة للطفل وربما تختلف فى حدتها من الأب والأم فقد يكون الأب قويا وموقفه واضح وحازم مثل لن تلعب الكرة إلا عندما تكون علاماتك(درجاتك)جيدة فى الاختبار وهنا يجب على الأم أن تدفع الولد إلى أن يحظى بعلامات جيدة من أجل اللعب لا أن تساعده على اللعب بدون بذل مجهود.
إن من تبعات الرسالة المتناقضة من الأب والأم هى تحطيم القدوة فى ذهنه وتضارب مشاعره حول الحب والكره للوالدين وعدم القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
5-التوقعات:
كل واحد فينا دائما ما يرسم توقعات تبدو مثالية ولو حتى على مستوى الأماني لأولاده متجاهلين القدرات الحقيقية لهم.
المشكلة عندما يتوقع الآباء مستوى لا يتفق مع الوضع الحقيقي لأبنائهم تتكون صورة شديدة البعد عن الوالدين لأنهما يطالبان بما لاطاقة له به ومن ثم يكون نصيبه الفشل دائما.
القبول بقدرات الابن ومحاولة تطويرها وليس إجبارها هو ما يقودنا إلى التصالح معهم والدخول فى حالة من السلام والنجاح معهم.
يقولون لا تهبط بمستوى التوقعات (مثلا حول المستوى فى المدرسة) فيفشل ولدك ولا تبالغ فيصيبه العجز وإنما نساعد وندعم.
6-التفضيل:
من المؤكد أنه يستحيل أن يفضل الوالدان أحد أطفالهم عن الآخر وإنما نتحدث عن ما يتخيله ويصوره الابن لنفسه.
يأخذ المولود الجديد اهتمام أبويه وسرعان ما يشعر الطفل الذى قبله أن هناك من شاركه في حبهما فيشاهد التدليل الذي كان يحظى به وقد ذهب إلى أخيه وفى مستويات الطفولة والمراهقة لا يبدو أن الولد فيه قد بلغ من النضج ما يستطيع به التفريق بين الحب الموضوعي والتوهم الخاطىء لديه.
ومن هنا ستكون عدائية تجاه الأب أو الأم وستغلف بالعناد وعمل سلوكات الهدف منها الإزعاج وسنجد شكاوى من الولد فى المدرسة وتتعلق أغلبها بالعنف وضرب زملائه فى الصف والحقيقة أن الطفل سيحاول جاهدا جذب انتباه أبويه.
ونجد أنه فى بعض الأحيان ستؤخر الأطفال فى ضبط عملية التبول ويستمران فى التبول اللاإرادى لفترة أبعد من الطبيعي وهذا أيضا من وسائل جذب الانتباه.
خطوات على طريق التصحيح:
*الحوار:
تكمن أهمية الحوار بين الأباء والأبناء في أن اللغة تغير مشاعر الطفل وتحمل الدفء اللازم للشعور بالأمان عبر الحوار.
الحوار سيمسح لك أن ترى ابنك وأن تعرف كيف يفكر وكيف سيتصرف فى المواقف المختلفة أما فى حالة عدم وجود الحوار سيكون هناك غموضا على التفسير الصحيح لسلوكات الابن.
*إشراكه فى القرارات:
إن اشراك الطفل فى أمور المنزل وقضاياه هو من الأمور الهامة جدا فى تكوين صورة ايجابية عن الوالدين والمنزل مثل الوطن وإذا ما شعر الطفل بأنه فرد من الأسرة سيشعر بالانتماء لهذا المنزل
أما إذا شعر بأنه شخص هامشي سيكون شعوره أيضا كذلك فى المجتمع ومن ثم يفضل إشراك الطفل فى ما يحبه من طعام وقرارات مثل أن يحكى له بأسلوب مبسط ومتناسب مع عمره بأننا ننوى مثلا أن نشترى أي شىء للمنزل ونأخذ رأيه وهذا سيصنع شيئين هامين:
أولا سيحترمنا الطفل وينظر إلينا على أننا نحترمه وثانيا سيدعم ذلك استقلالية الطفل.
*التعاطف:
أن تفرد مساحات يستطيع ابنك أن يتحرك فيها بحرية وأن تتعامل معه بعطف ذلك يجعل منا أشخاصا طيبين فى خيالات أطفالنا.
أن تشعره أنه مقبول بغض النظر عن سلوكه وأن اعتراضنا عليه يعود فقط إلى بعض التصرفات الصادرة منه وعدم المبالغة بردة الفعل حول أخطاء تصدر منه وإنما كل سلوك بقدره ويصاحب ذلك رسائل قبول له.
ختاما لا بد أن نعى أن ما يكونه أطفالنا عنا من انطباعات تؤثر حتما فى شخصياتهم وهو ما ينعكس على المجتمع و يشير إلى المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقنا فى أن نكون قدوة لأبنائنا فى زمن هم بأمسّ الحاجة فيه إلينا.